أحترم ذلك الفتى الواقف أمام عيدان "القرض" المشتعلة في الدروب المبعثرة لبيع الشاي غير مبالٍ بلفح اللهيب، ووطأة التعب، ساعياً لتعديل المفاهيم البالية، وهزيمة الذهنية المتورمة والمنقوعة بالإفلاس، والمشحونة بالسذاجة والخيبات.
هؤلاء الشباب كسروا ثقافة العيب، وتبدلوا مع تبدلات الظروف الاجتماعية، فخرجوا من الدائرة الضيقة إلى فسحة الواقع المشرق، لقد كسروا ذلك الانكفاء المقيت والنظرات السقيمة وعبروا مشاهد الإخفاق، ورسخوا فينا لغة الاستثناء وإعادة ترتيب شجرة النسب الكاذب والسلالات الفاخرة.
أحترم ذلك الشاب الذي لم يفرط في مهنة والده، مهما كانت تلك المهنة ومهما كان موقف ومزاج الوسط الشعبي منها، ومهما كان دورها ووظيفتها الاقتصادية، حين حافظ عليها وتشبث بها دون يأس أو ارتداد، مهما بلغت قسوة "المكننة" وضآلة المردود وفقر الخامات وجحود المجتمع.
علينا أن نؤكد المنهج الوظيفي للمهنة، وأن نعيد اعتبارها ومكانتها وإسهامها في الناتج الاقتصادي المحلي، فالمهنة المبدعة تسوق نفسها وتفرض حضورها ووهجها، حين نلتفت إليها بعد أن تعرضت للتصدعات والاستخفاف والمحو والهدم، بدعوى التحول والتبدل وإكسير الحضارة وحركة التاريخ والتطور البشري، وكأن التطور لايتأتى إلا على إحلال البدائل المجتلبة وكف يد ذلك المهني البارع والمبدع والأصيل، كأنها لم تأت إلا لتثني يد ذلك الفلاح ليكف عن الغناء والغزل المتبادل بينه وبين قطيع السنابل في الفجر الوقور، فالزراعة مهنة مكللة بالصبح والضوء والحياة. كأن الحضارة لم تأت إلا لتنهش مكنة الحياكة لذلك "الخياط" الذي كسا جسدي النحيل قبل خمسين عاماً رداء جعلني كعصفور أبيض يجاهر بالفرح. كأن الحضارة لم تأت إلا لتسقط ذلك "الباني" من على شرفاته البهية ليأنس بالصمت والغياب تحت رماد السنين العجاف وجبروت الإسمنت الوحشي. كأن الحضارة لم تأت إلا لتطفئ موقد ذلك "الحداد" النبيل الذي سلم جبهته لهجيرالحطب وعنفوان النار ونزيف العمر ليمنحك ثمراته التي لاتستطيع العيش في غيابها. كأن الحضارة لم تأت إلا لتأكل أحلام ذلك "الصياد" حين يبحر قبل أن يقد الليل قميصه ليسلم شباكه للماء المالح والبحر الغادر والسمك الغضوب لعله يطرح على رمال الشط صيده المشتهى. كأن الحضارة لم تأت إلا لتنزع وتصادر "طبول الفرح" في الأعراس والأعياد حين كانت على صدور كبار القوم وهم يغرسون أصابعهم فوق جسدها دون خجل أو حرج لتوقظ تنويعاتها اللحنية زهو الرقص وفيض الطرب ولتتحول العرصات المقمرة إلى غابة من النشوة وأسراب من الغبطة.
أرفع عقالي احتراماً لتلك الأسر التي لم تخجل من أن تدون مهنتها كأوسمة في نهاية نسبها العائلي كالسقا ـ الفوال ـ الساعاتي – القهوجي – القطان – العطار – النحاس – الدباغ – النجار وغيرها كثير من المهن الشريفة.