لا أسهل من حشد المؤيدين من حولك لمعارضة أمرٍ ما، وما ألذّ أن تظهر كرمز يدافع عن تلك المبادئ التي قد تتشدد لأجلها، وأن يتجمع المؤيدون ليهتفوا ويُصفقوا لك بعد أن جيّشتَهم خلفك، إلا أن هذا غالبا ما يكون على حساب العقل والمصلحة للبلد وعموم الناس.

فطالما دخلنا في أزمات كانت جرّاء أفكار متشددة ولم تكن مبنية على تعقّل أو مصلحة، سواء كان ذلك في المحيط العربي أو الإسلامي. حيث من طبيعة التشدد أن يجعل الإنسانَ مسلوبَ العقل تجاه تلك الفكرة التي يتشدد لأجلها، دون أن ينظر في معطيات الواقع والإمكانيات التي قد تساعده أو تمنعه في سبيل تحقيق مبتغاه.

هذا التشدد قد يقع من جميع التيارات والأطياف السياسية أو الدينية أو الفكرية، وليس حِكرا على توجّه واحد، بل هو يعود في أصله لمجموع طبائع الناس والأشخاص المؤثرين في ذلك التيار.

كما أن التشدد قد يكون باسم المحافظة على المتعارف عليه من دين أو عادة، أو باسم الثبات على منهج واحد وعدم التغير أو التجديد، أو باسم نبذ الآخرين المخالفين، أو بتجييش الناس نحو المخالف، أو بتضخيم المشاكل والخلافات وعدم وضعها في إطارها الصحيح، أو بتحميل الكلام أو المواقف والأفكار أكثر مما تحتمل، وهكذا من التصرفات التي لم تُبنَ بشكل صحيح.

هذه الأساليب المتشددة بالتأكيد ليست حلا، وهي في الحقيقة تدل على الكسل وعدم الرغبة في الاجتهاد نحو البحث والتفكير عن سبب المشكلة وحقيقتها وما هو الـحل؟ فمجرد التشدد والتمنّع في كل قضية تخالف المبادئ التي قد يتبناها الإنسان ليس حلا بلا شـك، بل هو الكسل والجمود على الحالة المتأزمة.

وكثيرا ما يكون ذلك الآخر الذي اجتهد وبحث لأجل الوصول إلى الأفضل قد بذل جهدا ووقتا في البحث والتفكير بخلاف ذلك المتشدد! وخلاصة الأمر أن التشدد سهل وكل إنسان يستطيع أن يقوم بهذا الدور، ولكن ليس كل إنسان يستطيع أن يقوم بدور التجديد والإصلاح.

لا أحبذ أن أذكر أمثلة كيلا تُفسد الفكرة، إلا أنني للضرورة سأذكر بعضها للإيضاح فقط وليس الحصر؛ فما الذي استفدناه من تجييش القوميين للعرب أيام الناصرية؟ إلا تلك الهزائم النكراء! وما الذي استفدناه من العمليات الانتحارية سواء في موسكو أو نيويورك أو لندن؟ إلا أن فقدنا الآلاف من الأبرياء من الطرفين! فضلا عن خسارة بلدان بأكملها! وما النتيجة من تلك الخطب العصماء في الكثير من القضايا لأجل ممانعتها وها نحن اليوم نمارسها بكل أطياف المجتمع؟

بعض المتشددين ينظرون إلى طريقة تعاطيهم مع الأزمات أنها هي الحل! بينما ومن حيث لا يشعرون ينتجون أزمات جديدة، ربما تكون أسوأ من الواقع الذي هم منه يفرون! فعندما نحاول قراءة ما خلّفه المحافظون الأمريكان مثلا في الحكومة السابقة؛ نجد أنهم ورّثوا مجموعة أزمات للبلد بأكمله نتيجة تشددهم، وربما تُفضي إلى تهاوي تلك الإمبراطورية الفريدة على مرّ التاريخ، كل هذا لأجل إرضاء وإشباع الرغبات الأيديولوجية وربما الشخصية فقط! كذلك، مثل بعض التيارات الإسلامية التي بَنَت فكرها والأيديولوجيا الخاصة بها على محاربة الديموقراطية مثلا، وكانت تشنّع وربما تكفّر تيارات أخرى -من بينها تيارات ذات توجه إسلامي- لمجرد أنها تتبنى التعددية والديموقراطية والمدنية، وها هي الآن تمارس العكس! إذاً ألا يدعو هذا إلى البحث عن مشكلة في التفكير كانت تُمارس؟

إذا نظرنا إلى التاريخ، فإننا نجد أن التشدد والاندفاع غير المحسوب أو المدروس كثيرا ما يؤدي إلى الفشل والخسارة؛ لأنه في الغالب ينبني على العاطفة ويُضيّق مسار التروّي والتفكير في المآلات والنتائج، مما يجعل الواحد يندفع نحو الفكرة دون النظر في جدواها وإمكانيتها أو العواقب التي تؤدي إليها. كما أن التشدد كثيرا ما يكون لأجل المصالح الشخصية أو لمجرد حب الظهور والبروز كحامٍ أو منقذ للتيار، وليس لأجل قناعة حقيقية، خاصة مع ملاحظة أن القرار الجماعي في بيئتنا ليس غالبا، وإنما يكون القرار غالبا لفرد أو أفراد من أصحاب النفوذ.

إن أفضل ما يمكن أن يقال عن التشدد إنه حيلة الجاهل، كما أن أفضل ما يقال عن المتفتح والهيّن الليّن مع الآخرين هو دليل العلم وسعة الأفق والاطلاع. فالإنسان كلما ازداد علما وحكمة ازداد تفهّما وتقديرا لآراء الآخرين، كما قال الإمام الشافعي رحمه الله: "كلامي صواب يحتمل الخطأ وكلام الآخرين خطأ يحتمل الصواب"، ولكن؛ هل لنا بشافعيٍّ في هذا الزمان؟