بعد مرور خمس سنوات على تدشين برنامجها الثقافي وخدمة المجتمع، استطاعت الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة الوصول إلى مختلف شرائح المجتمع عبر هذا البرنامج، فاستضافت من خلاله ـ مساء الثلاثاء ـ صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل أمير منطقة مكة المكرمة محاضراً عن "منهج الاعتدال السعودي"، واستهل الأمير خالد الفيصل محاضرته بالشكر للقائمين على الجامعة وعلى رأسهم مدير الجامعة ومهندس نهضتها الجديدة، حيث قال: "يسعدني أن أستهلّ حديثي إلى جمعكم الكريم، بالشكر والتقدير لهذه المنارة العلمية السامقة، ولكل القائمين عليها، وعلى رأسهم معالي الشيخ الدكتور محمد بن علي العقلا مدير الجامعة، على تهيئة هذا اللقاء المبارك، ولا غرو فقد أصبحت جامعتكم ملء السمع والبصر، منبراً مستنيراً يتصدى بالحق للجهل والجهالة". أما مدير الجامعة الأستاذ الدكتور محمد العقلا فقد أكد أن هذه المحاضرة تسلط الضوء على هذا المنهج "ليفيد منه الجميع دولاً ومؤسسات وأفراداً، في ظل واقع ينطق بالفتن والتطرف والغلو والتحديات هنا وهناك، لا علاج لها إلا بالإسلام ومنهجه الوسطي".
وقد شهدت المحاضرة حضوراً كبيراً وبرنامجاً مميزاً، وتفاعلا ملحوظاً من قبل الحضور من الجنسين، إذ أكد الأمير خالد الفيصل في محاضرته أن المنهج السعودي الذي يعنيه يوائم ويوازن بين التمسك بالدين والإفادة من مكتسبات الحضارة، وأن الجميع مسؤولون عن تأصيل الاعتدال والتصدي لمحاولات اختطاف المجتمع يميناً أو يساراً. ثم قدّم أمثلة لتطبيقات هذا المنهج، مؤكداً أننا جميعاً أمام فرصة تاريخية لتقديم الوجه الحقيقي الناصع للإسلام إلى العالم، وهو إسلام الإصلاح والتطوير والبناء، إسلام العدل والحرية والمساواة، إسلام القيم الإنسانية الأصيلة.. إسلام كل العصور.
وبالإضافة للحضور الكثيف، شهدت المحاضرة إقبالاً إعلامياً عبر تغطيتها من قبل العديد من الصحف والقنوات الفضائية، وكان للإعلام نصيب من حديث الأمير خالد في ثنايا محاضرته، وفي رده على بعض الأسئلة والمداخلات، أشار إلى أنه لا يمكن اليوم فرض التحكم بوسائل الإعلام في عصر الفضاء المفتوح، وأن الحجب لم يعد حلاً ناجعاً، مستشهداً بتأثير الإعلام ووسائله المختلفة على مجريات الأحداث السياسية الأخيرة في العالم العربي.
ونظراً لأن هذه الجزئية تندرج ضمن أهمية الموضوع الرئيس للمحاضرة، فقد رأيت أن أتناولها هنا؛ انطلاقاً من اهتمامي بالأمر على المستوى الشخصي والمهني، حيث لم نعد خارج العالم ولن نستطيع أن نكون خارجه، بل نحن جزء منه؛ وبالتالي لا بد أن نقع تحت تأثير كافة المجريات السياسية والاقتصادية والثقافية في عصر العولمة حيث تحول العالم إلى قرية إلكترونية صغيرة، يلعب الإعلام والاتصال الدور الأهم فيها، في ظل تعدد وسائله واتجاهاته كون وسائل الإعلام الحديثة شريكا رئيسا في تحقيق الرقي والتقدم والتنمية، لما عرف من أثر للصورة والصوت والكلمة.
وبما أنه يوجد قانون فيزيائي يؤكد أن لكل فعل ردة فعل مساوية له بالقوة معاكسة له بالاتجاه، فإن ذلك ينطبق على وسائل الإعلام والاتصال، فكل كلمة توجد مقابلها كلمة ـ وربما كلمات ـ مضادة، وكذلك الأمر بالنسبة للصوت والصورة، وهنا يكون للوسيلة الإعلامية دور رئيس في الحصول على المعرفة، فإذا ما أتيحت أمام الإعلام حرية إيصال المعلومة فإن المتلقي سوف يستقي المعلومات من مصادرها الموثوقة، وإذا ما حجبت المعلومة من مصدر فإن المتلقي سوف يبحث عنها من مصدر آخر، على الرغم من أن المجتمعات لم تتهيأ لأن تصبح مجتمعات معرفية.
ومع ثورة الاتصالات التقنية التي نعيشها اليوم أصبحت وسائل الإعلام أكثر من وسائل الحجب، إذ لم تعد الرقابة الخارجية على الوسيلة الإعلامية مجدية، وخصوصا أن الأفراد صاروا يستخدمون وسائط إعلامية متعددة، وكأن كل فرد منا أصبح يملك آلة إعلامية خاصة به يعبّر من خلالها عن أفكاره وآرائه وعواطفه، ومتطلباته واحتياجاته وهواجسه.
يتسيد الإعلام الموقف منذ بدايات القرن الماضي، ومع ازدياد وسائله تتقلص البديهيات والحقائق المطلقة، ولم يعد أحد يمتلك الحقائق المطلقة وإن وجد من يدعي ذلك، غير أن العلاقة بين مؤسسات والمؤسسات الأخرى صارت وطيدة، فالمؤسسة السياسية والاقتصادية والثقافية لم تعد بمعزل عنه أبداً مهما كانت هذه الوسيلة أو تلك مزعجة، فالمبادرات والدعوات التي تتم عن طريق الإعلام الجديد غالباً ما تأخذ طريقها للتنفيذ نتيجة تأثر العقل الفردي والجمعي بالوسيلة الإعلامية.
وهنا تبرز أهمية "التربية الإعلامية" في المؤسسة التربوية على أسس تتيح للنشء التعاطي بثقة مع وسائل الإعلام دون قيود تفرض قسراً، إذ لم تعد القيود ممكنة أصلاً في ظل هذا الانفجار المعلوماتي والمعرفي، وإنما هناك قناعات تقدّم وقيم تُغرس، ووعي عقلاني يترسخ؛ وهذا ما تتم المناداة به اليوم عبر المنظمات الدولية كي تصبح مؤسسات الإعلام والتربية طرفين مكملين لبعضهما لا طرفين متصادمين، وهنا أيضاً تبرز الدعوة إلى أن يصبح الإعلام شريكاً في التربية، بعدما أصبحت الوسيلة الإعلامية الوالد الثالث في مطلع القرن حين تم اختراع التلفزيون، غير أن كثرة الآباء والأمهات الافتراضيين لا حصر لهم اليوم في عصرنا الحاضر.
ففي ظل الإعلام الإلكتروني الجديد المعروف بـ(new media) أصبح هنالك كم هائل من المعلومات التي لا يمكن وضع قيود رقابية عليها، ولا يمكن أيضاً إبقاء المجتمع ضمن هامش أقل مما يسير عليه المعدل العالمي لتطور الإعلام.
لقد خلق الانفجار المعرفي جيلاً رقمياً جديداً يتعاطى منذ النشأة الأولى مع الآلة الإعلامية؛ مما أفرز جيلاً كاملاً من الديجتال يمثل اليوم غالبية المجتمعات العربية ـ ومنها المجتمع السعودي ـ حيث يعتبر الشباب أهم فئاته العمرية، وبذلك أصبح السعوديون جزءاً من هذا الواقع، ممتزجين بهذا العالم الإعلامي الجديد، ولم تعد الخشية مبرراً للخوف والتقهقر ومحاولة العودة بالزمن إلى الوراء، ولذا نطمح لمجتمع مبدع متطور باستمرار، ينتهج الاعتدال كقوة دون أن يحاول البقاء خارج الزمن.