من التعاون إلى الاتحاد.. لم تكن هذه الجملة التي أطلقها الملك عبد الله بن عبد العزيز مجرد عبارة ترحيب وتحفيز لقادة دول المجلس، إنها المرحلة الأنسب والأكثر استحقاقا التي يجب أن يتجه إليها مجلس التعاون الخليجي، فالاستقرار القادم مرتبط جدا بهذه العبارة، والمواجهات القادمة مع كل التحولات التي تمر بها المنطقة لن تكون ذات جدوى ما لم تكن دول المجلس قد خرجت بالفعل من حيز التعاون والعمل المشترك إلى حيز الاتحاد.
بعد كل هذه التحولات التي تشهدها المنطقة العربية، ومع اتساع طوفان الثورات وبروز دور جديد للشارع العربي، بات من الواضح أن الشكل السياسي القائم لدى دول الخليج يمثل ضمانة استقرار حقيقية ومؤثرة، ولكنها ليست الوحيدة، وليست قابلة للاستمرار إذا ما آمنت بالجمود وركنت إلى الاتكال، فدول الخليج العربي تقوم تركيبتها السياسية على أبعاد اجتماعية وثقافية، تجعل من السياسي جزءا من المجتمع، وليس مجرد مهيمن عليه كما هو الحال في حكومات العسكر وحكومات الانقلابات.
الشارع الخليجي لا يعيش أزمة شرعية سياسية مع القيادات التي ليست لديها أزمة في تعريف ذاتها، ولا يقوم بقاؤها في السلطة على خدعة سياسية كما هو الحال في الحكومات التي تسمي ذاتها ديموقراطية بينما تبقى في السلطة لعشرات السنين وتبحث في التوريث ويعيش الناس فيها تحت قوانين الطوارئ. لكن الواقع الحالي لدول الخليج، لا يضمن مزيدا من الاستقرار إلا إذا تم استيعاب الواقع والانطلاق منه لبناء استقرار فعلي ومستمر وحقيقي، وهي مسؤولية حكومات دول المجلس والتي يجب أن تدركها على المستويين الداخلي والخارجي.
لم يعد الشارع العربي مجرد حفنة من الجماهير القابلة للتوجيه والتحكم، بل أصبح الشارع لاعبا أولا ومؤثرا في تشكيل الواقع بكل أنماطه ومستوياته، لكن الأسئلة التي تمثل تطلعات لدى شعوب دول المجلس ليست أسئلة سياسية بقدر ما هي أسئلة في الحقوق والاقتصاد والعيش الكريم، ومع ذلك فالإجابات عن تلك الأسئلة بحاجة لمزيد من العمل والوضوح والتخطيط.
حين تم إنشاء مجلس التعاون الخليجي في عام 1981 كان المناخ المحيط بالمنطقة يستلزم كيانا سياسيا على هيئة تكتل يشترك في مصالحه وفي مصيره، خاصة أن الثورة في إيران كانت قد حققت أهدافها، وأوجدت واقعا سياسيا جديدا في المنطقة.. تصاعدت مع مرور الوقت، لتتحول إلى النموذج السياسي الأغرب في العالم، وبتنا في الخليج على مقربة من نظام عقائدي يقوم استقراره على الاضطرابات التي يمثل تصديرها واحدا من أهم عقائده السياسية.
أسهمت الأحداث التي شهدتها المنطقة على مدى ثلاثة عقود في أن يشتد إيمان المجلس بدوره وبقيمته وبما أوجده من استقرار وشراكة بين دوله الأعضاء، فالحرب العراقية الإيرانية، ثم الاحتلال العراقي للكويت، وصولا إلى الاحتلال الأميركي للعراق، وتصاعد التحركات الإيرانية داخل المنطقة كلها أحداث استطاعت دول الخليج أن تتعامل معها بمنطق الكيان السياسي الواحد الذي أدار مواقفه وتوجهاته السياسية مع كل تلك الأحداث ليخرج مستقرا آمنا وليواصل خططه في التنمية والبناء. إذا كان ذلك الواقع قد أدى إلى قيام المجلس، وإذا كانت تلك الأحداث قد أدت إلى تماسكه، فإن الواقع الحالي وما سيشهده من تحولات قادمة يفرض على دول المجلس أن تستوعب أن الجملة التي أطلقها الملك عبدالله في افتتاح أعمال القمة الثانية والثلاثين هي التحول الوحيد والأنسب الذي يجب أن تتجه إليه دول الخليج لتكون على مستوى مواجهة التحولات داخليا وخارجيا. القضية ليست في إيجاد قوة دفاعية فقط، ولا في توحيد التعرفة الجمركية، إنها في إعادة تعريف الاستقرار ومقوماته، والقدرة على التعامل مع واقع سياسي تفرضه الثورات العربية واختلاف التركيبة السياسية في كثير من تلك الدول، إضافة إلى واقع العراق الجديد الذي سيشهد حضورا مكثفا للدور الإيراني بعد خروج القوات الأميركية من العراق، وفي ظل الضغوطات الاقتصادية التي تتعرض لها طهران ستسارع بالتأكيد إلى جعل بغداد رئة سياسية واقتصادية وشرفة تسعى أن تطل منها على المنطقة.
إذاً فالتعاون بصيغته القائمة بين دول المجلس قد أدى دوره على أكمل وجه، لكن المستقبل بحاجة إلى دور جديد ورؤية جديدة، لن يكون سوى الاتحاد هو القادر على حماية المنطقة وضمان استقرارها.