انتقلت للإقامة في المنطقة الشرقية قبل بضعة أشهر، وكانت تلك زيارتي الأولى لها. وأنا حين أتحدث عن المنطقة الشرقية أقصد مدينتي الخبر والظهران تحديداً، اللتين أستطيع القول بأنني بت أعرفهما إلى حد كبير، وبدرجة أقل مدينة الدمام.
حين انتقلت للعيش في الخبر لن أقول بأنني أحببتها من أول نظرة، فقد وصلتها في يوم هبت عليها فيه عاصفة ترابية جعلتني لا أرى حولي سوى الغبار والمزيد من الغبار. كانت الخبر بالنسبة لي لا تشبه مدينتي عروس البحر الأحمر الممتلئة حيوية في شيء، توهمتها مدينة بلا تاريخ ولا روح.. مدينة ما كانت لتكون لولا النفط. لكن شيئاً فشيئاً بدأت أرى الجمال في هذا المكان الجديد، فلا أحياء عشوائية هنا، ونزلت الأمطار فلم تغرق في شبر ماء، والشوارع نظيفة، والتنقل في أرجائها سهل، فلا اختناقات مرورية، ولا مشاوير تستغرق ساعة أو أكثر للانتقال من شمال المدينة إلى جنوبها. وبدأت أشعر ببعض الألفة مع المكان، خاصة لجهة قربها من دولة البحرين الشقيقة، امتياز لا يتوفر لسكان أي منطقة سعودية أخرى. وأعتقد أننا الشعب الوحيد في العالم الذي عليه أن يعبر الحدود فقط للذهاب إلى السينما! وهناك في صالات العرض السينمائية والمراكز التجارية في مملكة البحرين لا نشعر بغربة أبداً، فنصف الزوار أو أكثرهم من السعودية، شباباً وعائلات، من مختلف الاتجاهات.
لكن إن كانت المقارنة مع البحرين غير عادلة على اعتبار أننا نتكلم عن شعب في دولة أخرى، له عاداته وتقاليده، فدعونا نجرِ المقارنة بين مدن السعودية قاطبة وبين شبه مدينة داخل السعودية أيضاً، سأطلق عليها هنا مدينة أرامكو. فكثيراً ما سمعت عن "الكامب" وعن الحياة التي يعيشها الناس داخله، وأنه بلاء نعوذ بالله منه ونتمنى زواله، ولهذا كنت أتمنى بعد انتقالي ألا اضطر للعيش داخله، في هذه البيئة الاصطناعية في بلدي، إلا أنني سرعان ما بدلت رأيي! فباستثناء بعض التجاوزات الفردية، فمدينة أرامكو، على المستوى المحلي، هي حلم كل مواطن، وهي تمثل الحد الأدنى مما يجب أن يكون عليه الحي السكني في أي دولة متقدمة.
فهناك التخطيط السليم للأحياء وللبيوت بداخلها، والمساحات الخضراء الشاسعة وملاعب الأطفال، كما بها نواد صحية ممتازة للرجال وأخرى للنساء، وفيها مكتبة عامرة بأفضل الكتب العربية والإنجليزية، وأماكن للدراسة ولاستخدام الإنترنت، وفي المكتبة أيضاً قسم جميل خاص بالأطفال. كما أن هناك دار سينما صغيرة، وبقالة وبعض المطاعم والمقاهي، ومركزا نسائيا للتجميل، ومستشفى وناديا للفروسية وملاعب رياضية، وتتوفر بها فروع للبنوك وبعض الدوائر الحكومية كذلك.
أضف إلى ما سبق وجود المساجد الكبيرة والتي تمتلئ بالمصلين والمصليات في شهر رمضان خصوصاً لأداء صلاة التراويح. ويستخدم السعوديون (وهم الغالبية) وغيرهم من المقيمين من عرب وآسيويين وأفارقة وأوروبيين وأمريكيين وغيرهم هذه المرافق يومياً بدون مشكلات تذكر.
لا أشاهد الشباب يطاردون الفتيات، ولا أحس بأن من حولي ذئاب. والأمر نفسه بالنسبة للقيادة داخل المدينة، فالرجل يقود سيارته بطريقة نظامية سليمة يراعي فيها كل أنظمة المرور واشتراطات السلامة، وفي بيئة كهذه لا تصبح قيادة المرأة قضية من الأساس، فهي ممارسة طبيعية تقوم بها سيدة منقبة وأخرى سافرة دونما إشكال، هذا مع وجود وسائل مواصلات عامة للتنقل داخل المدينة نفسها ولنقل سكانها لخارجها أيضاً.
وما إن تخرج من بوابة مدينة أرامكو الجميلة حتى تشعر وكأنك عبرت بين قارتين، فكل ما هو موجود في الداخل ليس له أثر في الخارج. حتى الرجل الذي كان يقود بمنتهى المسؤولية في الداخل يبدو وكأن جنية خطفته حال خروجه واستبدلته بقرينه المتهور! والسؤال الذي يظل يلح علي كلما عبرت البوابة دخولاً وخروجاً هو لماذا؟
لماذا نجحنا في صناعة مجتمع حضاري طبيعي في هذه الرقعة من بلادنا على مدى خمس وسبعين سنة وأخفقنا في صناعته في عموم الوطن؟ لماذا وكيف صنعنا "كمباوندات" نموذجية في جل المدن الرئيسية، يقيم فيها غير المواطنين بشكل رئيسي، ويتنعمون بحياة جميلة يُحرم منها أطفالنا؟ حين رأيت طفلة أمريكية تتدرب على ركوب الخيل داخل أرامكو تذكرت بنات العائلة الصغيرات واللاتي يشتكين من الملل وغياب وسائل الترفيه، وكم تمنيت لو استطعن اللعب هنا.
الجواب الذي توصلت إليه هو أن من أمن العقوبة أساء الأدب والعكس صحيح، فإدارة مدينة أرامكو صارمة، فهناك ابتداء تخطيط جيد للأحياء ومن ثم صيانة دورية فعالة لكل الموافق دون تهاون. وهي تُحمل كل موظف فيها مسؤولية أهله وزواره بالإضافة إلى مسؤوليته عن نفسه، وأي مخالفة ولو كانت مخالفة سير ستسجل كنقطة سوداء في سجل الموظف وقد يؤدي تراكمها إلى فصله. ولا مجال هنا للمجاملات أو الواسطات حينما يتعلق الأمر بعلاقة الرجال والنساء وتحرش أحدهم بالآخر سواء على مستوى الموظفين والموظفات أو في المرافق العامة.
السؤال الثاني الذي يطرح نفسه هنا..بدلاً من أن ننظر إلى دبي أو الدوحة باحثين عن نموذج نحاكيه.. لمَ لا نحاكي نماذج داخل السعودية نفسها، سواء أرامكو أو الهيئة الملكية في ينبع والجبيل أو جامعة الملك عبدالله؟ ولماذا تُحجب هذه الواحات عن غالبية المواطنين بأسوار عالية؟ لمَ لا تكون مدننا كلها على هذا النحو؟
أترك الإجابة لوزراء الاقتصاد والتخطيط والمالية والشؤون البلدية والقروية والسياحة ولأمناء المدن ولكل مسؤول يستطيع أن يجعل مدننا أجمل وحياتنا أكمل.. ولا يفعل.