بالرغم من أن "الهمزة" ليس لها ذكر ضمن الحروف الأبجدية الثمانية والعشرين إلا أن لها مكانة كبيرة في اللغة العربية، تبدأ حكايتها الرومانسية مع الألف، فمع كون حرفها أصغر من بقية الحروف لكنها إذا احتلت الصدارة في كلمة فهي لا ترضى إلا بعرش "الألف" وكأنها متزوجة من "الألف"، وقصتها مع "الألف" قصة عشق طويلة فهي تتقمص شخصيته وتختلط معه وتذوب فيه إلى أن تفقد هويتها، تأتي في أول الكلمات المهمة والمتداولة ولكن خطورتها الرئيسية تكمن في اتصالها مع صيغ التفضيل (أكبر، أجمل، أحسن، أكثر، أفضل..) وهنا تبدأ حكايتنا الحقيقية مع "أ".
مجتمعات عربية تعشق الصدارة، ولذلك هي في رحلة بحث مستمرة عن "الألف" و"الهمزة"، وهو طموح مشروع في حد ذاته، ولكن غير المشروع هو التداخل غير المنطقي في قصة العشق هذه، فبدلاً من البحث عن الأجمل في إطاره الجمالي أصبحنا نبحث عن الأجمل في إطار مُفرغ من الجمال، نركض وراء الأغنى متجاهلين ثقافة الغنى الحقيقي، أن تحاول أن تكون الأفضل بشكل منطقي وواقعي هو أمر مطلوب، أما حينما يكون جُل اهتمامك أن تقفز قفزات صاروخية إلى الأمام وأنت مازلت تقبع في القاع فهذا سعي وراء السراب وهذه هي مأساة مجتمعاتنا للأسف! ومصداق ذلك ما نراه ظاهرا على السطح من جامعات ما زالت في مرحلة البنية التحتية طموحها الحقيقي فقط هو الحصول على شهادة الاعتماد الدولي. هذا النمط من التفكير الفوقي وليس الاستحقاقي هو ما أعقبه هذه النتيجة الفضائحية التعيسة!
إن حكاية "أ" العربية تتماهى بشكل وثيق مع حق الفوقية على الآخرين، والتي أصبحت ثقافة عربية بامتياز، فهذه الجماعة تعتقد أنها الأفضل وتلك الطائفة تعتقد أنها المثال الأعلى، وبالتراكم الزمني لهذه الأفكار تنتقل العظمة من الجماعة إلى الفرد الذي نشأ وترعرع على مسلمات توهمه بالعز والعلو والفخر، ولعل تصرفات بعض المسؤولين التنفيذيين في طريقتهم الاستفزازية والاستعلائية في التعامل مع المواطنين هي خير مثال على ما نقول.
إن استلاب العقلية العربية بهذه الثقافة جعل حواراتنا مع الآخر غير مجدية ولا سبيل للاستفادة منها، لأننا ببساطة نعتقد ببلوغنا درجة الكمال، فصدقنا مقولة الخصوصية الفارغة، بل أكثر من ذلك أصبحنا نُعلم أبناءنا في المدارس أن الحريات والعولمة كلها خطط غربية للهيمنة على الدول الإسلامية الفقيرة، فلا بد من الوقوف ضدها ورفضها، لأنها ترجمة لمنظومة فكرية غربية يُراد تطويع مجتمعنا لها، فمثلا قبل عدة أيام تحدث أحد الدعاة في محاضرة له بمناسبة اليوم العالمي لحقوق الإنسان أن مثقفي "الغرب لا يؤمنون إلا بقوانينهم وثقافتهم التي يحاولون فرضها على غيرهم"، مستدركاً بحاجتهم إلى من يوعّيهم بوجود ثقافات أخرى لا يمكن إغفالها.. نعم هذه ملامح المنطق الاستعلائي، فنحن نفوق شعوب الأرض، وعلى الآخرين أن يتعلموا مِنا، فعندما نعتقد أننا الأفضل في كل شيء وعلى الآخرين اتباع طريقتنا وأسلوبنا سنتقاعس عن التطوير والتغيير، وسنكف عن البحث عن أخطائنا، لأننا لا نعترف بوجود نقص أو عيب، كوننا الأكمل، وهكذا تنقلب هزائمنا إلى انتصارات، أليس دليلا ساطعا على تقوقعنا وانغلاقنا وفقا لنظرية الاستعلاء والأفضلية أن تقوم دولة مثل إسبانيا في عام واحد بترجمة عدد من الكتب يعادل ما ترجم إلى اللغة العربية خلال الألف سنة الماضية؟
ختاما أقول: إن أصحاب العقلية الفوقية يزعمون أنهم يؤمنون بكل الأطياف المتنوعة ويستوعبون كل الفلسفات.. هم يحتاجون في الواقع إما إلى ساذج يصدقهم ولا يرقى بينهم، أو إلى ساذج يصدقهم ويصدق نفسه ويرقى بينهم ويستغل الساذجين ليكون شغلهم الشاغل هو رفعهم للفاعل في اللغة العربية.