ترى ما الشعور الذي ملأ قلب ذلك المواطن الكبير في السن، بوقاره وبلحيته البيضاء وهو يستقبل من وزير الزراعة ذلك الجواب وبتلك اللغة التي لا تليق بين رجلين عابرين في الشارع لا يعرف أحدهما الآخر، فما بالك بلغة من وزير موجهة لمواطن؟ ما الانطباع والشعور الذي ملأ قلب ذلك (الوالد) الوقور، وهو يراقب خطوات وزير الزراعة تبتعد عنه، مخلفة في أذنه كلمة واحدة، تنهره كما يفعل المعلمون القساة مع تلاميذهم، وتتحدث معه بمنطق المعطي والواهب الذي يرى أن وظيفته تتلخص في نوع العطية وكميتها.

ملامح ذلك الرجل الوقور، هي ذاتها ملامح آبائنا وأجدادنا في كل مناطق المملكة، ملامح أولئك الرجال الكبار الذين تناثرت قطرات عرقهم في أراضيهم، وبعضهم لديه أبناء في سن مقاربة لسن الوزير الذي قسا عليه، لكن أحدا من آبائنا أولئك لم يكن يطمح أن يجد نفسه في مثل هذه الموقف الذي يفيض انتقاصا.

أيضا.. هذا السؤال لكم أيها السعوديون في طول الوطن وعرضه: هل يتوقع أحد منكم أن خادم الحرمين الشريفين، حفظه الله، أو سمو ولي عهده الأمين، أو سمو وزير الدفاع مثلا، يمكن أن يحدثوا أي مواطن في أي منطقة في المملكة بمثل تلك اللغة أو بذات الحدة والغلظة؟ بكل تأكيد الجواب هو: لا. مما يعني أن ثمة فهما سلبيا لدى بعض الوزراء في استيعابهم لكونهم يمثلون القيادة. القيادة بحضورها وكرمها وطيب تعاملها مع الناس من مختلف الشرائح، هذا التمثيل السلبي، إذا كان ينعكس بهذا المستوى في تعامل مسؤول مع مواطنين، فكيف به في تعامله في مكتبه أو مع ما بين يديه من مشروعات؟

كان بإمكان معالي الوزير، ودون أن يخسر شيئا أن يرد على ذلك المواطن الوقور بمنتهى الهدوء، حتى لو لم يتوفر ما كان يطلبه ذلك المواطن، وقد يجد كثير من المسؤولين أنفسهم أمام مطالب شعبية عامة قد تكون غير منطقية أحيانا، لكن التعامل معها لا يتم بتلك الصورة إطلاقا، فمهما كان طلب المواطن لا يمكن استيعاب أن الرد عليه يكون بتلك الطريقة.

تذكروا فقط ، ماذا فعل الأمير خالد الفيصل حين استوقفته امرأة من نساء حي أم الخير تشتكي ما لحق بالحي من أضرار، وتذكروا كيف كان رده وتعامله معها، وتذكروا أيضا كيف أحضرها لتقوم هي بافتتاح ذلك السد بعد إعادة بنائه، لتدركوا الفرق بين مسؤول يستوعب ما معني أن يكون ممثلا للقيادة ومسؤول لا يستوعب ذلك، ذلك الموقف الذكي والوطني والإيجابي الذي قدمه الأمير خالد الفيصل – رغم أنه وبلا مجاملة يصعب مقارنة الفيصل بكثير من المسؤولين – إلا أنه يكشف كثيرا من اعتزازه بالإنسان السعودي رجلا كان أو امرأة وقدرته على تحمل المسؤولية.

يفرح كل مسؤول مؤمن بالناس حينما يهدي إليه أي صحفي سؤالا أو نقدا ما عن أداء وزارته، بينما كان رد وزير الزراعة حادا ورافضا لفكرة السؤال أصلا، ووصفه بأنه فتوى، مع أنه سؤال كان ينقل رأي الناس، وحري بكل وزير أن يبتهج أيضا بالسؤال الخطأ، لأنه يمنحه فرصة للتصحيح والإجابة.

اتصلت بأحد الخبراء الزراعيين الذي أكد لي أن الحمى القلاعية تعتبر وباء تتولى وزارات الزراعة في كل دول العالم مكافحته، وليست شأنا خاصا بكل صاحب مزرعة على حدة. يؤكد ذلك الجواب الذي يرد به الوزير على المواطن بأن ما هو موجود من أدوية لا يكفي، وبما أنه هو يقوم بشراء العلاج لمزرعته فعلى الناس أيضا أن تشتري كذلك، إذا كان هذا القياس الغريب هو معيار التنظيم والقرارات في وزارة الزراعة وأن ما ينطبق على الوزير في التعامل مع مزرعته يفترض أن يمثل نظامنا الزراعي فتلك أزمة حقيقية. وحتى لو لم تكن القضية من اختصاص الدولة بالدرجة الأولى، فلن يكون الجواب على الإطلاق إهانة مواطن بتلك الطريقة.

الآن علينا أن نجتهد في إخفاء آبائنا وأجدادنا المزارعين عن أعين الوزير كلما همّ بزيارة لأي منطقة، لسبب واحد فقط، لأننا نجلّهم من أن تتم معاملتهم بتلك الطريقة أو أن يقال لأحـد منـهم: يا عمـي روح اشـتر.. هل تريد من الحكومة أن تعطيك ببلاش؟

هذا الواقع السعودي الذي يزداد نماء وازدهارا، لا تتفق كل خطواته مع تلك المواقف التي تزرع كثيرا من الإحباط والألم في نفوس المواطنين، ولا مع تلك اللغة التي ما زال يؤمن بها بعض المسؤولين الذين يرون أن مجرد زيارتهم لأي منطقة في المملكة هي بحد ذاتها هدف تصطف الأعناق لرؤيته والاحتفاء به، وعلى كل مسؤول أن يدرك جيدا أن كرسيه ليس ملكا ولا هبة، بل هو عمل يشهد الناس والناس فقط على مدى نجاحه من عدمه.

من الشجاعة أن تعتذر وزارة الزراعة لذلك الوالد الوقور، وأن يعتذر الوزير كذلك، فلدينا منظومة سعودية، لا على مستوى التقاليد ولا على مستوى الأداء الذي اعتدناه من مسؤولين وضعت القيادة ثقتها فيهم أن يكونوا بهذا المستوى من التعامل وضيق الصدر. إن مستوى الرضا لدى الشارع السعودي هو المعيار الحقيقي لكل مسؤول، ولكم أن تتخيلوا حجم الرضا إذا كانت لغة المسؤول لا تخرج عن: يا عم روح اشتر.