في نهاية عشرينات القرن الماضي وقف جون روكفلرـ إمبراطور الصناعة البترولية ومن أهم المستثمرين آنذاك ـ على عتبة سوق البورصة بنيويورك وقرر أن يقوم بتلميع حذائه. خلال جلسة المسح الشهيرة، قدم ماسح الأحذية جاهلا هوية روكفلر نصيحة مجانية بخصوص أفضل الأسهم للشراء والاستثمار. أخذ روكفلر بنصيحة ماسح الأحذية الاستثمارية، وقام ببيع كل ما يملك من أسهم في ذلك اليوم ونجى بثروة عائلته من الكساد الاقتصادي العظيم. أدرك حينها أن مشورة ماسح الأحذية تعكس ذروة الشراء، وهذه الذروة تدل على قرب انهيار وتحطم السوق. تنبأ روكفلر "ذو النظرة الثاقبة" بسقوط سوق البورصة والنكسة التاريخية في ذلك اليوم، ولم يمر أسبوع حتى حل الثلاثاء الأسود، ثلاثاء الرابع والعشرين من أكتوبر 1929.

نعيش في حقبة من الانفجار المعلوماتي وتوفر العديد من وسائل التواصل والإعلام مما خفف الشعور بالذنب من قبل مقدمي الخدمات الصحية من مسؤولين وأطباء وممرضين ومثقفين تجاه من يعانون من نقص الوعي الصحي. فكل ما يحتاجه الفرد الباحث عن المعلومة الصحية هو متصفح إنترنت لتطالعه المواقع التثقيفية والمنتديات بشتى المحتويات الغث والسمين بكل اللغات من دون تقييم لمحتوى أو اعتماد من جهة صحية. ولكن مع تطور الوقت تحول شعور الذنب النابع عن حس المسؤولية لدى بعضهم إلى فوقية واستعلاء عن هذا الجانب المهم لأي مجتمع متحضر حتى وصلوا لمرحلة التنطع بـ "مجتمع متخلف صحيا" في معظم الاجتماعات الطبية والصحية إدارية كانت أم أكاديمية وكأنه من مهام المجتمع أن يثقف نفسه بنفسه. الأدهى والأمر أنه يتم عقد المقارنات العقيمة بين مستوى الوعي الصحي لدى أفراد مجتمعنا بنظيره لدى أفراد مجتمعات دول العالم الأول، وتتم الإشارة بكل سخرية لفجوات الوعي الصحي المجتمعي، وما علموا أن هذه السخرية هي إدانة صريحة وواضحة لتقصيرهم التوعوي والتثقيفي كمقدمي خدمات صحية. ومع هذا كله، أبى هذا المجتمع الكريم إلا أن يرضخ لتهم الوعي المتخلف والجهل الصحي، وبدأ بتوعية أفراده بما يملك من قدرات وجهود فلجأ لماسح الأحذية.

ماسح الأحذية في سوق الصحة طيف متعدد الألوان والأوجه، فهو عطار يشفي جميع أنواع السرطانات تارة وشيخ مشعوذ تارة أخرى. هذا الطيف يبدأ في شريط قناة تلفازية بوصفات علاج جميع حالات العقم مرورا بمداواة بتنقية لمس الشاشة وصولا لمنتديات إلكترونية مجربة ومضمونة 100?. سقط سوق البورصة آنذاك بدخول ماسح الأحذية وكذلك سيسقط سوق الصحة.

ضحالة ثقافة التوعية والتثقيف الصحي لدى المؤسسات الصحية وأفرادها هي نتاج ضعف وشح في استراتيجيات صحية توعوية وطنية، والانتقاص من أهمية الاستثمار في هذا الجانب والاكتفاء بسياسة "امرض نعالجك" وتجاهل نداءات أفراد المجتمع للوقاية والكشف المبكر وتعطشهم للتوعية الصحية الموحدة الصحيحة.

لم تسلم الصحة من الأبراج العاجية وما زالت تعاني من المركزية الخاطئة: مركزية الأطباء لا مركزية المرضى. وأصبحت مهمة التثقيف والتوعية من المهام الثانوية التي يترفع عنها بعض الأطباء، ولعل بعضهم يجدها مهينة ويتعجب من سؤال المريض لينطق بجملته الشهيرة: "من فينا الدكتور؟!" هذه الفوقية انعكست على سياسة الصحة واستراتيجيتها لدينا متمثلة بميزانية التثقيف والتوعية والوقاية لنجدها في آخر الفاتورة.

المعادلة الصحية الصحيحة هي التي تتكون من جميع الجوانب المهمة من تشخيص وعلاج ووقاية وتوعية لتنتج فردا سليم الجسد والعقل والنفس. هذا الفرد السليم بدوره قادرعلى القيام بواجباته المجتمعية. اختلال أحد هذه الجوانب الأربعة سينتج عنه مواطن يجوب المستشفيات بحثا عن إجابة لسؤاله البسيط ليفاجأ بقائمة من الإجابات المتعددة غير الموحدة. خلل سينتج عنه مواطن ثقته معدومة بنظامه الصحي الذي لا يهتم بكونه سبعينيا يقطن الدور الرابع بعد عملية كسر بالحوض. خلل سينتج عنه مواطن ذاب قلبه حسرة على طفله المتوفى غرقا لجهله بأساسيات الإنعاش القلبي الرئوي. خلل سينتج عنه مواطنة ترضع أبناءها بسرطان ثدي منعها حياؤها من الحديث عنه.

مناعة المجتمع هي شكل من أشكال المناعة التي تحدث عند تطعيم قسم كبير من المجتمع، بحيث يوفر قدرا من الحماية للأشخاص الذين لا يتمتعون بالمناعة. ما نحن بحاجة إليه هو المناعة المجتمعية التوعوية. نحن بحاجة إلى رفع معدلات الوعي الصحي بين أفراد المجتمع، وقد سبقنا إليه الكثير، ففي بريطانيا مثلا يوجد موقع إلكتروني اسمه بكل بساطة "مريض" للدلالة على مركزية النظام الصحي وتمحوره حول المرضى، وفيه كم هائل من وسائل وأنشطة التوعية والتثقيف ليس للمرضى وأهاليهم ومن يرعاهم فحسب ولكن حتى للأطباء والممرضين والممرضات يشرح طرق ووسائل التوعية بشكل موحد.

أقسام الطواريء وأجنحة التنويم ومراكز العلاجات المتخصصة مطلب وطني مهم، والجهود في هذه المجالات عظيمة لا ينكرها إلا ظالم. ولكن الاستمرار بالتوسعات وبناء المستشفيات ومراكز متخصصة هو حل مؤقت واستنزاف للمال العام على المدى الطويل. هذه قنوات ومهما اتسعت وزاد حجمها وعرضها فالمصدر لم ينضب بعد، المصدر كامن في المجتمع في كل بيت وفرد.

الوقاية والتوعية الصحية النشطة استثمار مضمون النتائج ماديا وبشريا. هذا الاستثمار هو استثمار ثقة في النظام الصحي قبل أن يكون استثمار علاج وشفاء. أما آن لنظامنا الصحي أن يستمع لإشارات احتياجات المجتمع التوعوية كما استمع روكفلر ونجى بثروته؟ نحن لا نملك القدرة على الخروج من سوق الصحة لدخول ماسح الأحذية ولكن نملك تصحيح المسار قبل الانهيار.