المتابع لما يدور في دهاليز الساحة البحثية خصوصا في مجال تدوين تاريخ وأنساب قبائل الجزيرة العربية يلمح بروز اتجاهين تتنازعان (يتنازعان) فصول المشهد أكثر من غيرهما، اتجاه يجنح لعدم تجاوز (الوثيقة) كمصدر تاريخي مهم في تدوين وتوثيق الأحداث التاريخية، فيما يميل الآخر لترجيح كفة (الرواية الشفهية) خصوصا فيما يتعلق بأخبار القبائل وأنسابها في عدد من مناطق الجزيرة العربية خصوصا تلك التي غابت عن مسرح التدوين والتوثيق لعقود طويلة.

أنصار كل اتجاه يقدمون بطبيعة الحال مبرراتهم في تلك (المعيارية) والمنهجية البحثية.

وبالرغم من وجود عدد من الباحثين والمؤرخين ممن يرون ـ كما تكشف كتاباتهم ـ أصالة الجمع بين الاتجاهين، أي أنهم يؤمنون بأهمية الأخذ بالوثيقة والرواية كمصدرين للتاريخ طالما أن التمحيص والتدقيق سيظلان في النهاية سيدا الموقف لكل من يريد أن يشرع بتدوين التاريخ، إلا أن تأثير هذا الاتجاه الوسط يبدو واضحا على مستوى الحراك البحثي لدينا في الوقت الذي تبرز فيه عبر منتديات ومواقع الإنترنت المتخصصة في تاريخ وأنساب القبائل ملامح صراع بحثي بين أنصار الاتجاهين وصل إلى درجة أن ينتقد وبحدة أنصار كل فريق منهجية الآخر بالدرجة التي تصل إلى اتهام البعض بالتزوير وعدم الخروج من الهوى في كتاباتهم البحثية.

ومع أن المنطق يؤكد أنه لا يمكن لساحة بحثية أن تخلو كغيرها من وجود ممن يفتقدون أدوات البحث العلمي الرصينة ويحتكمون للمهنية والموضوعية في تقديم بحوثهم، إلا أنه ليس من المنطق كذلك أن يغيب صوت الحوار الهادف بين أنصار الاتجاهين، بدلا من تكريس حالة الإقصاء والتهميش التي يمارسها أنصار كل فريق مع خصومهم لمجرد الاختلاف حول معلومة قد لا تكون صحيحة لدى الطرفين، ولا يمكن في ظل ذلك التشنج ـ بطبيعة الحال ـ أن تخرج أي كتابات بحثية جيدة وجادة يمكن أن ترفد حركة البحث التاريخي لدينا.

أتصور أن الساحة البحثية باتت بحاجة أكثر من أي وقت مضى لمن يتبنى بوعي ومهنية وموضوعية مشروعا ثقافيا يفتح المجال لتقديم رؤى أوسع في هذا الباب، ويمكن من خلال هذا المشروع الحواري بين أهل البحث والتاريخ تأكيد صوت العقل واحترام الرأي المختلف وتكريس ثقافة الحوار الهادف مهما كانت حدته بدلا من المهاترات التي تشهدها منتديات الإنترنت التي لا تفضي إلا لمزيد من التسطيح والتشرذم.