شعرت ببالغ الحزن وأنا أستمع لجملة الشيخ راشد الغنوشي، زعيم حركة النهضة التونسية عن المملكة وهو يتحدث من قلب العاصمة الأميركية، إن كان للمكان حتى من دلالة، والفكرة لا لأن الغنوشي لم يستوعب بعد فوارق الانتقال في المواقف من المعارض المهجَّر إلى أن يكون رأس الدولة الذي يحسب حساب الحروف والكلمات؛ بل لأن حديثه الجارح يبرهن عن الخلل المستحكم والأزلي في ذهنية وعقلية السياسي العربي.
السياسي العربي لم يستوعب على الإطلاق أن حدود معركته السياسية ونضاله يجب أن تظل محصورة في محيطه – القطري – لا أن يقفز بالتهم والاستنتاج إلى خارج الحدود. السياسي العربي يهرب على الدوام من مواجهة التحدي المحلي الذي يجب أن يتصدى له ليصبح على النقيض، ذلك العقل السياسي العابر للحدود الذي يؤمن اعتقاداً أن الدور المحلي مجرد قاعدة انطلاق إلى المحيط الأممي الأوسع. العقل السياسي العربي يبرهن أنه لم ينضج بعد كي يدرك أن القفز إلى الأممية على حساب مهمته القطرية الصرفة التي ذهب إليها في صندوق الاقتراع ونتائج الغيم الانتخابي هي ما سيشغله عن مواجهة عشرات التحديات الجوهرية الداخلية. مهمة راشد الغنوشي الأساس هي أن يتصدى للخلل التنموي المحلي في حدود بلده، وهو الذي عاش لأربعين عاماً يرقص تذكيراً بهذه الإحباطات والمشاكل والقضايا التي تواجه – الأمة – التونسية لا أن يسحب هذه القضايا والمشاكل إلى غطاءات خارجية على بعد أربعة آلاف ميل من منبعها الذي عاش مجاهداً من أجله. مهمة راشد الغنوسي أن يتصدى لآلاف الجمل والأخطاء التي كان يراها في جهاده المعارض الطويل من الاقتصاد المتباطئ إلى الفساد المستشري إلى القمع السياسي لحقوق الإنسان إلى البطالة المستفحلة وإلى الحريات المصادرة، وإلى كل ما تعدى ذلك من القصص التنموية الخالصة التي كانت لأجلها هذه الثورة التي ابتدأت روزنامة الربيع العربي. مهمته الأساس هي حلول الاقتصاد والبناء لأن – الاقتصاد – هو دفتر الحساب الذي سيحتكم إليه الشعب لتقييم التجربة، وهذه الشعوب لم تخرج إلى الشوارع ولم تطح بالأنظمة واحداً تلو الذي يليه كي تنتصر لأي خطاب عاطفي أيديولوجي عابر للدول، بل ثارت في الأساس من أجل المستقبل والاقتصاد والوظيفة. شباب (سيدي بوزيد) لم ينتفضوا لأن العلة كانت في أبوظبي أو بغداد أو الرياض بل لأن كل المشكلة وأركانها في قلب تونس، وليست متراً واحداً خارج تونس الخريطة.
لماذا إذا كان هذا السؤال في الخلل الأزلي لدى العقل السياسي العربي وهو يقفز إلى التفسير – الأممي – لتغطية تحدياته الجوهرية الداخلية والقطرية؟ لماذا يقفز مباشرة إلى مصطلح الأمة على حساب مهمته الأساس في بناء الدولة؟ والجواب من جذور متشعبة.. الجواب لأنه عقل جمعي تربى على أدبيات بالية من منتصف القرن الماضي؛ حين كانت الحركات الثورية في العالم العربي تنثر وعودها الأممية على حساب مستقبل شعوبها الداخلية التي ما زالت حتى اللحظة تدفع فواتير تلك الخطابات الديماغوجية. حين كانت الحركة الناصرية ـ مثلاً ـ تظن أن المهمة تبدأ من صنعاء أو طبرق على حساب نصف مليون من الشعب المصري كانوا يذهبون إلى عالم البطالة سنوياً، وبالإحصاء، أيام الحقبة الناصرية حين كانت حركات اليسار الاشتراكي العربي تحاكي كل الشعوب العربية بمستقبل اليسار مؤمنة أن للمشكلة في مراكش جذوراً في دمشق، وأن مستقبل التعليم في ظفار مرتهن بجودة الجامعة التونسية. والفارق أن قرناً كاملاً من الزمن لم يعلم هؤلاء السياسيين عبثية التفكير – الأممي – وكوارثه التي أعمتهم عن مواجهة مشاكلهم الداخلية الحقيقية. لم يتعلموا أن هذا العالم العربي المزعوم لم يكن أبداً وعلى الإطلاق في كل تاريخه دولة واحدة ولا علماً واحداً ولا قضية واحدة. لم يدركوا أبداً أن مجرد اللسان الواحد في اللغة لا يعني التطابق ولا التماثل ولا حتمية المصير الواحد. لم يدركوا أن الهروب إلى الحل – الأممي – هو بذرة هذا الفشل الذريع في الحياة القطرية.