عندما ترجمت الشاعرة الهولندية خيريت كوميرتي أجمل قصائد الشاعرة الجنوب أفريقية آنجريد يونكير باللغة الهولندية، وهي القصائد التي كانت أكثر درامية وغوصا في أحاسيس الشاعرة الأفريقية، لم تكن كوميرتي تعلم أن تلك الترجمة ستثير اهتمام الشاشة الفضية، لتبحث الكاميرا فيما وراء القصيدة عن تفاصيل حياة آنجريد (1933 - 1963) التي عاشت مع قلمها صراعا هائلا بين مشاعر الحب والعدل ومحاربة العنصرية، وبين واقعها كابنة لإبراهيم يونكر الوزير المرموق في حكومة الفصل العنصري، والذي كان يرى أن الفصل العنصري حق أساسي، ليقف على طرفي النقيض من ابنته العاشقة للعدالة والمساواة، ولتمارس هي عذابات الصراع بين صدق القلم وأكاذيب السياسة.

وهو واقع حياتي جعل آنجريد تعايش الاكتئاب النفسي والتمزق في علاقات عاطفية أقامتها مع اثنين من الأدباء هما جاك كوب، وأندريه برينك في ذات الوقت، لتقرر في النهاية وضع حد لعذابها النفسي مع والدها وتمزقها العاطفي بالانتحار، حيث عثر على جثتها ملقاة على أحد الشواطئ، مخلفة وراءها تساؤلات وفجيعة إنسانية، وطفلة وليدة كانت أنجبتها من زوجها سكوير قبل أن تنفصل عنه، وهي تفاصيل القصة التي حملها الفيلم الهولندي تحت اسم "الفراشات السود" باللغة الهولندية للمخرجة "باولا فاندير أوست" والسيناريست خريخ لاتير ولعبت دور آنجريد الفنانة الهولندية "كرايسي فان هاوتين"، وتم الانتهاء من تصويره في فبراير الماضي، وصدرت في أول أبريل الجاري نسخة أخرى مترجمة باللغة الإنجليزية، ليخطف الفيلم مشاعر الهولنديين وغير الهولنديين أيضا.

أعيدوها إلى البحر

قصة حياة الشاعرة آنجريد جاءت كمعزوفة للحن منفرد من الألم والعذاب، وتخللت لقطات الفيلم مقاطع لتسجيلات صوتية للمناضل نيلسون مانديلا، وهو يقرأ إحدى قصائدها التي تحمل اسم "الطفل" وتحكي قصة طفل قتله أحد الجنود بالرصاص في نيانجا، وقد قرأ مانديلا القصيدة في أول خطاب له أمام أول برلمان ديموقراطي منتخب في جنوب أفريقيا عام 1994، ليتم الدمج المعنوي بين صراع الفتاة الشابة من أجل الحياة الحرة والمساواة، مع الكفاح السياسي لمانديلا من أجل تحرير السود من براثن العنصرية، لتأتي في النهاية الصحوة السياسية، بعد أن دفع كثيرون حياتهم، ومن بينهم آنجريد التي ماتت بعد أن سجلت بقصائدها واقعا مريرا، أكثرها مرارة قصيدة شهود "مذبحة شاربفيل" والتي جاءت كلماتها كشاهد عيان على المذبحة رغم أن آنجريد لم ترها بنفسها، وقصيدة "أنت من جعلني بالخارج".

وكانت آنجريد التي ولدت بمزرعة في دوجلاس قرب كيمبرلي، قد قضت طفولة بائسة في مزرعة بالقرب من كيب تاون مع والدها، بعد انفصاله عن والدتها فيما توفيت الأم فيما بعد عام 1943.

وبدأت آنجريد كتابة الشعر في مجلة المدرسة وعمرها 6 سنوات، وتبادلت الرسائل الأدبية مع دي جي أوبرمان الكاتب والشاعر الجنوب أفريقي وعمرها 16 عاما، وتأثرت به إلى حد كبير، وكانت مجموعتها الأولى من القصائد الأفريقية بعنوان "بعد الصيف"، ثم مجموعة "الهروب"، وحاربها والدها في نشر قصائدها لأنها رفضت سياسته صراحة، كما رفضها بعد موتها، فعندما عثر على جثتها غارقة وتم انتشالها إلى الشاطئ، قال فيها والدها "أعيدوها إلى البحر، لا تهمني، فقد أدارت ظهرها للجميع"، وهكذا كانت النهاية.