الحديث عن سفراء المملكة في الخارج ذو شجون، وأتصور أن ديدن خادم الحرمين الشريفين في توجيه وإنارة السفراء عند تعيينهم وتنبيههم إلى دور السفراء في عكس وجه الصورة الحقيقية للوطن ودعم المواطن والحرص على مطالبه والدفاع عنه والتكفل باحتياجاته وفتح أبواب السفارات له، كان منعطفاً هاماً في عمل السفراء.

ومن هذا المنطلق، كنا الأسبوع الماضي في وداع أنموذج مضيء للسفير السعودي بخلقه ووطنيته عطاءً وسلوكاً، ذلك سفير خادم الحرمين الشريفين لدى ماليزيا محمد رضا أبوالحمايل المتحدث بثلاث لغاتٍ إنسانية لا يجيدها اليوم إلا القلة، فتنطلق ابتسامته لطفاً غامراً يأخذ القلوب إلى حقلٍ من موسيقى لغةٍ (أولى) مبهرة، والأخرى مواطنةً وإخلاصاً في عمل دؤوب بين العلاقات السعودية الماليزية وسياسة الباب (المفتوح) لكل احتياجات المواطن السعودي، وثالثة تؤكد لغة الحضور وروح المشاركة والتواضع التي لم نعتدها من لغة بعض مسؤولينا وسفرائنا!.

محمد أبوالحمايل سفيرٌ (فوق العادة)، نشأ بهويةٍ متألقة وعطاءٍ سخي لصناعة المستقبل، فتحَ عينيه على الدبلوماسية وعمقها؛ فتعمق في بحورها لتقوده إلى تدرج مثالي في سلكها بدءاً من تعيينه في وزارة الخارجيـة ملحـقاً.. حتى مرتبـة وزير مفوض، مُزجت بخبرته العلمية بعد الشهادة الجامعية من الدورات التدريبية والدبلومات الدبلوماسية من الجامعة الأميركية وجامعة جون هوبكنز، فتعانقت صقلاً لمهاراته الدبلوماسية في سفارة واشنطن، وبُعداً آخر من عمل المنظمات الدولية في وزارة الخارجية ومشاركات متعددة لأكثر من 20 مؤتمراً دولياً تتنقل بين السياسة والاقتصاد والسياحة والعلوم ومشاركات متعددة تحت مظلة الأمم المتحدة واللجنة الدولية للصليب الأحمر حتى توجت مسيرته بصدور قرار تعيينه سفيراً مفوضاً وفوق العادة لخادم الحرمين الشريفين لدى جمهورية غانا، ثم سفيراً مفوضاً وفوق العادة لخادم الحرمين الشريفين لدى ماليزيا.

سفيرٌ.. لم يجد ارتداء قناع التجهّم، أو تقمّص دور المسؤول المتعجرف، وإنّما استلذ الصفاءَ الفطري والنقاء الإنساني، فلمس المواطنون السعوديون عطاءاته وحجم إنجازاته كدبلوماسي محنّك يعمل بصمت النجاح، تجده في مكتبه صباحاً، يفتح معه أبواب السفارة وشعور المسؤولية والمواطنة معاً، يبهرك ركضه وتواضعه بنزاهة المخلصين، يتحرك بين منسوبي السفارة بكل حب، يستقبل مراجعيه وضيوفه ببشاشة أنيقة، يتحرك في كل الاتجاهات، يتعامل بمثالية مع كل العلاقات الدبلوماسية في دولة كماليزيا ذات الثقل الإسلامي والمعرفي والاقتصادي؛ فأدار عدة ملفات بذكاء وحكمة تحفها المواطنة والعمل المجيد لوطنٍ لا ينضب من المخلصين، فتداول مواقفه الجميع لتصبح صدى في القلوب والعقول.

كوَّن مع المجتمع السعودي ومبتعثي ماليزيا خصوصاً منظومةً فريدة بإهاب الفأل واستثارة الحب، وعلاقةً غير آيلةٍ للانقطاع يحفها الاحترام المسيّج بشذا الوفاء، فكانت يده أول من صافحت أول دفعة من مبتعثي برنامج خادم الحرمين الشريفين في مطار كوالالمبور الدولي عام 2007م، مستقبلاً لهم، واقفاً على احتياجاتهم، وحاضراً في مقدمة مناسباتهم ومناشطهم الثقافية والعلمية والاجتماعية.

يقول نائب رئيس النادي السعودي في كوالالمبور محمد أبوسبعة: "عندما رزقت بمولودي الأخير كان من أوائل المتصلين المهنئين وأول الملبين حضوراً لدعوة عقيقة ابني المتواضعة!".

ولأن الجميلين دائماً لا يخرجون من القلوب إلا وهم سامقون نجاحاً وزهداً، فقد ضرب سعوديو ماليزيا استنفاراً في تكريمه من دبلوماسيين وموظفين في حفل الملاحق الفنية السعودية لتوديعه، وحفل آخر ببصمة وفاء المبتعثين بعدما أصروا أن يحتفلوا به أيضاً ومن (حسابهم) الخاص في فندق (الماريوت) بكوالالمبور؛ فكانوا في سباق مع المشاركة والحضور، وكخلية نحلٍ لا يجيدها إلا النبلاء فقط تنظيماً وإخراجاً، فقدموا له أغلى هدية وهي أنموذج شكر و(برقية) وفاءٍ أرسلوها لخادم الحرمين الشريفين يشكرونه على اختيار هذا الرجل تكريماً ووفاءً بلغة الحب التي جمعتهم سواء!.

تلك الهامة الوطنية مُنحت صلاحياتٍ ومنصباً هي أهلٌ له، فلم تغره أضواءٌ كثيرة أو مقعدٌ وثير، فتجلى عمله بمنأى عن وطأة الاستكانة وقوالب هيبة السفراء، وصبغة التعالي والأبراج العاجية التي وصم بها (بعضهم)، ليخرجنا من قوقعتنا الاجتماعية تلك ويثيرنا بتغيير النظرة وتغييبها بإنارة شمعة يحملها بين يديه لتكشف مناطق معتمة من نسيجنا في التعميم، فصنع رؤيةً للأجيال القادمة، وقدم دروساً في شخصية السفراء الحقة، ورسم لهم أجمل لوحة يُحتذى بها، ودرس آخر في عقولنا تستفيق به كل الكلمات النقية في عمق الذاكرة عطراً منثوراً وقصة كفاحٍ لسفيرٍ أصبح وشماً في قلوبنا وعلى خارطة تاريخ وزارة الخارجية السعودية.