هنيئاً لتونس.. هنيئاً للشعب التونسي؛ فبوادر الآمال الكبيرة لاستقرار الدولة التونسية بدأت تلوح في الآفاق، بعد أن نجحت بتسجيل انتصارين في مرحلة الثورة وما بعدها، الأول حين أسقط الشعبُ الاستبدادَ السياسي ونجح الجيش الوطني التونسي في حماية المواطنين ومؤسسات الدولة من الانهيار، من خلال دعم القيادات السياسية من أجل تجاوز الأزمة عبر التمسك بدستور البلاد، الذي تم الاحتكام له بقرار للمجلس الدستوري التونسي تلاه انتقال سلس للسلطة وفقاً للدستور لتنتهي مرحلة سياسية صعبة استمرت أكثر من عقدين، إلى مرحلة جديدة لم تخلُ من الصعوبة تكللتها إسهامات فاعلة لمؤسسات المجتمع المدني التونسية في ملء الفراغ بالمشاركة السياسية والاجتماعية والأمنية.
ففي ظل الظروف العصيبة التي عاشتها الجمهورية التونسية اقتنع الجميع بأن الاحتكام للدستور هو الحل، مما أفضى إلى تولي رئيس البرلمان السيد فؤاد المبزع لرئاسة الجمهورية مؤقتاً، وبعد فشل الوزير الأول محمد الغنوشي في الحصول على الثقة الشعبية عُهد إلى الباجي قائد السبسي-السياسي المخضرم- برئاسة الحكومة فاستطاع إدارة المرحلة باقتدار، وعبرت تونس إلى مرحلة تاريخية مهمة تمثلت بانتصار آخر بتشكيل المجلس التأسيسي وانتخاب أعضائه برئاسة مصطفى بن جعفر، وتلا ذلك انتخاب محمد المنصف المرزوقي رئيساً للجمهورية، وتكليف حمادي الجبالي برئاسة الحكومة، وهو ما كان متوقعاً بعد الاتفاق السياسي المسبق بين أحزاب "النهضة" و"المؤتمر" و"التكتل".
ثمة قلق يسيطر على الأجواء السياسية التونسية من وجود حزب النهضة في الحكم حيث يعتقد البعض أن البلاد ستفقد مكتسباتها الديموقراطية، غير أني أرى أن المرحلة مبكرة جداً لاستباق الأحداث والنتائج، إذ يؤكد القادة السياسيون-بمختلف انتماءاتهم وتوجهاتهم- في الجمهورية الجديدة على أهمية التأسيس والبناء، وأزعم أن لديهم من الخبرة والذكاء ما يكفي لتجنب هدم بيت الثورة بأيديهم، بل إن المرحلة مهمة لتجنب كل ما يؤثر سلباً على لحمة المجتمع ووحدته الوطنية، وكذلك ما يعيق امتداد علاقات تونس الدولية والإقليمية، ولذلك فإن الخطط السياسية التنموية للحكومة الجديدة يفترض أن تضع في حسبانها ضرورة تدعيم استقرار الدولة والمجتمع، سواء فيما يتعلق بحقوق الإنسان أو التعليم أو الصحة أو السياحة أو الاقتصاد.
من جانب آخر، يجب عدم إغفال أمر مهم وهو أن النظام الديمقراطي الجديد للجمهورية لا بد أن يكفل وجود توازن القوى عبر كفتي الموالاة والمعارضة بتواجد الطرفين معاً تحت سقف واحد في البرلمان المنتخب الذي يمثل إرادة الشعب، مما يعني عدم استفراد فئة دون أخرى بالقرار في ظل معادلة (الثلث المعطِّل) لأي محاولة لتمرير بعض مشاريع القوانين دون التوافق والمشاورة والأغلبية البرلمانية، ويعتبر موقع الثلث المعطل هو ما تطمح إليه بعض الأحزاب والشخصيات السياسية في تكتلاتها القادمة في المجلس الوطني التأسيسي، لكي يصبح موقع المعارضة فاعلاً لا صورياً وفق ما تمليه المصلحة السياسية والعامة، حيث يستطيع سبعون نائباً تكوين هذه الجبهة لضمان عدم تمرير مشروعات قوانين تشريعية يرون أنها لا تخدم الصالح العام أو تؤثر سلباً على سير العملية السياسية في البلاد، وهو ما تقوم عليه التوازنات والتحالفات في اللعبة السياسية بوجه عام.
ولقد جاء خطاب رئيس الجمهورية المؤقت الدكتور محمد المنصف المرزوقي دقيقاً وشاملاً ومتوازناً مطمئناً للداخل والخارج، معبراً عن أهمية المنعطف التاريخي الذي تمر به تونس، وأن مسؤولية النجاح أو الفشل ستكون جماعية لا فردية، مشيراً إلى الأمل في تحقيق الحرية والعدل والمساواة وتحقيق أهداف التنمية في كافة جوانبها، ومؤكداً أن الثورة التونسية هي "أول ثورة عربية سلمية ديمقراطية بلا صنم أو أيديولوجيا... يجب ألاّ ننسى أيضاً أن أمتنا العربية تنظر لنا كمختبر يحتذى به إن نجحت التجربة التاريخية في بلادنا فإنها ستكون مثالاً وقدوة وإن فشلت فستترك غير مأسوف عليها وقد أصبحت أملاً ضائعاً آخر".
وهذا يجعل العيون-في الشرق والغرب- تنظر لتونس على أساس أنها مختبر التأسيس الجديد للديمقراطية الحقيقية التي تستوعب كافة التوجهات، وتتيح العديد من الفرص أمام المواطن التونسي للشراكة والعيش الكريم، بما يحقق طموحات وآمال الشعب التونسي، وهنا تقع المسؤولية الكبيرة على عاتق الساسة في مواقع المسؤولية الوطنية بتحقيق هذه الطموحات والآمال من خلال التركيز على التنمية، وتوثيق صِلات البلد بجيرانه ومحيطه العربي والدولي، ولا سيما الأهداف المشتركة وتعميق الشراكة السياسية والاقتصادية والثقافية.
ويبدو أن الأمر المهم الذي يمكنني التأكيد عليه هو أن تونس كما لو أنها طائر الفينيق يقوم مستجمعاً قواه مرة أخرى، ولذلك ستبقى هي بلاد الياسمين وقبلة الثقافة والعلم والحضارة في الشمال الإفريقي والساحل المتوسطي، ويتوقع أن تنجح بجدارة في استعادة الاستقرار والسلم الاجتماعي كما نجحت في ثورتها، لما عرف عن الشعب التونسي من وعي وسلام وتصالح مع الذات والآخر.
وعلى الرغم من أن الهوية العربية الإسلامية كانت وما تزال هي المكون الثقافي الأبرز للمجتمع التونسي، مثله مثل أي مجتمع عربي آخر، إلا أن احتمالية التغيرات الاجتماعية في الأجيال خلال أعوام قادمة أمر محتمل، ولا سيما في خطورة انتشار (التديّن الأيديولوجي) على المجتمع، إثر حماسة فئات المجتمع للتدين والتي ربما كانت رغبة مكبوتة ظهرت بعد سقوط النظام السابق، خاصة لما يعتقده البعض من أن الابتعاد عن الدين سابقاً يستوجب العودة إلى الله بعد ابتعاد لأسباب متعددة، شخصية وثقافية وسياسية ترسخت بعد قرن من الاستعمار، وهنا قد يُخشى اختراق التشدد لبعض الأفراد في المجتمع التونسي إذا ما نشأت أرض خصبة للفكر الديني عبر الدعوات المؤدلجة للتدين لدى بعض الجماعات، كما حدث في مصر في القرن الماضي، حيث سيطرت الجماعات الدينية فكرياً واقتصادياً وثقافياً على مفاصل المجتمع.
وهنا يفترض بالمجلس الوطني التأسيسي أن يقر دستوراً صالحاً لمئة عام قادمة على الأقل، يستوعب تعدد المشارب ولا يمكن من خلاله تقويض الحريات العامة ولا عودة الاستبداد إلى سابق عهده؛ لكي لا تنحني وردة الياسمين!