كتبت مراراً عن علاقة الزمن بمجتمع أنهك آلات التصنيع السويسرية بإقباله على منتجاتها، وأغرق الأسواق بمئات الأشكال الفنية من الساعات اليدوية التي لا يخلو منها معصم؛ لدرجة يعتقد معها بأن للزمن في حيواتنا قداسة وللوقت اعتباراً، فيما الحقيقة غير ذلك إلى حد بعيد، وحسب عقارب هذه الساعات أن تكون على شاكلتنا من الكسل الذهني والمراوحة الفكرية فلا هي تدور إلى الأمام ولا أحسبها كذلك، تستثير اهتمام نظمنا السياسية حين يكون العالم في مرحلة استيقاظ ومواقيت أمتنا رهن غروب طويل.

في أمم تنتج حاجات الآخرين وتتبارى على تثمين وجودها الإنساني يجري تطويع الزمن لأهداف إستراتيجية وبرامج نهضوية، ويتم احتساب الوقت ضمن معايير النجاح الشخصي والعام؛ إذ ليس مقبولاً ولا معقولاً أن يذهب أحد إلى مهمة أو يكلف بعمل دون تحديد الوقت المتاح لتحقيق أفضل النتائج.

ثمة جداول زمنية تجبر الحكومات على الوفاء بالتزاماتها، ولدى قيادات الدول وشخوصها الاعتباريين وتلامذتها في الصفوف الدراسية ضوابط صارمة لاحترام الوقت واعتباره ضمن مقومات الثقافة العامة المعززة بأنماط سلوكية لا تقبل الخرق أو التجاوز.

هذا لا يحدث في بعض بلداننا العربية والإسلامية.. فنادراً ما تلتئم المؤسسات الإقليمية في مواعيدها، وغالباً لا يبدأ العام الدراسي أو ينتهي في موعده، وكثيراً ما يجد الإنسان نفسه وحيداً يتلوى من الألم لتخلف المدعوين إلى ندوة أو مؤتمر أو اجتماع عن المشاركة .

إننا نسأل: كم باقة ورد ذبلت في يد عاشق فاته موعد حبيب أو أخ بعيد جراء اضطراب رحلات الشركة الناقلة. وكم من المليارات أنفقها العرب خلال النصف الأخير من القرن العشرين مقابل شغفهم باقتناء الساعات المرصعة بالغفلة، التي لا تحرك فيهم ساكنا ولا تثير لديهم شيئاً من تحسس إيجابي تجاه التزاماتهم المتصلة بإدارة المؤسسات المعنية بقضاء منافع وأشغال الناس أو الموصولة بمصالحهم العامة؟

على أن الأهم من كل هذا طرائف النظام العربي والإسلامي وأساليب تعاطيه مع اللحظة التاريخية الفاصلة بين ما كان وما هو وشيك وسيكون.

إن تاريخ البشرية على قدمه وتعدد مشاهده وجلبة إحداثه ليس أكثر من لحظات تاريخية فارقة في حيواتنا.

تذهب الأعمار وتبلى السنين ويبقى الأثر المدهش من الجهد الإنساني الخارق، ذلك أن اللحظة التاريخية تنبع من فكرة طارئة يقتنصها مبدع وتتوافر أشراطها مع حدث عابر ربما تكرر عشرات المرات على آلاف الأشخاص؛ لكن (نيوتن) وحده حول سقوط تفاحة على رأسه إلى اختراع أذهل البشرية وأضاء دروبها في ظلام الليل الدامس..و لأنها تنطوي على بشرى أو تنبئ بمخاض لذلك يومض مؤشرها على رأس حربة تتجاذبها أجيال و تعنى بها شعوب من أجل الحرية و التقدم و النمآء .

أحيانا تخطر اللحظة الاستثنائية على صورة فكرة شاعرة فيلتحم معها ويناغي شذراتها موهوب ذو حس مرهف؛ لتصير فيما بعد حديثاً تصغي إليه الأسماع وقبساً من ألق إبداعي تتداوله الألسن، وتتمخطر في أحايين أخرى على مداخل فتح عظيم وكرجع صدى تركته صرخة عمورية (وامعتصماه).

اللحظة الثورية هي الأخرى تستجمع مكوناتها من تداعيات الألم المعتق في مشاعر وحناجر المجتمعات، وتحتشد معطياتها على أكثر من صعيد، لكنها تظل بحاجة إلى ما يطلق عليه المحاربون تسمية (الصاعق) فإذا أحسن الناس التقاط الإشارة الأولى لهذه اللحظة يغدو الهدف التاريخي ممكناً وسبل الوصول إليه متاحة.

وفي واقع الحال فإن اللحظة التاريخية في كل أحوالها وسواء كانت اكتشافاً علمياً أم عملا فنياً أو هدفاً ثورياً إذا أخطأها الإنسان غدت شيئاً مغايراً لطبيعتها؛ إن لم يصبح التعامل معها شبيهاً بوضع الأحزمة الناسفة في متناول صبية يعوزهم رشد العقلاء وخبرات المجربين..

يوم نستعرض وقائع التاريخ ونعاين أحداث حقبه السياسية والاقتصادية والثقافية المدونة نجد التخلف في مقدمة المحطات المشتركة بين أمصاره وشعوبه وأنظمته العربية والإسلامية، ولا ريب أن تتعدد الأسباب الكامنة وراء ذلك؛ لكن أبرزها على الإطلاق يتمثل في القطيعة مع الزمن وعدم الاكتراث بالوقت وغياب الإرادة الحقيقية الكفيلة بالتقاط اللحظة الاستثنائية وإعادة صياغتها بشروط التحول التاريخي إلى الأمام.

إننا غالباً ما نعتقل فرص التحول وفقاً لحسابات ضيقة ونحاول اختصار المسافات باللجوء إلى الأزقة الفرعية انقياداً نحو مألوف اعتيادي يعكس غلبة الماضي وهيمنة نزعاته الصراعية؛ ولهذا نبدو خارج حسابات العالم الحديث المحكوم بسلطة الزمن.

ساحات الثورة المصرية تطلق لحظتها الاستثنائية عبر أنقى وأفضل صور التلاحم بين جماهير الشعب مسلمين ومسيحين، وبدلاً عن اقتناص اللحظة والانتقال بها إلى أفقها التاريخي الوطني الممتد إلى مشارف المستقبل جرى اختزالها بمنافسة انتخابية قررت شكل الواقع وموازينه الصراعية التقليدية، بطريقة نالت من دلالة ومغزى التلاحم الشعبي باعتباره الحامل الاجتماعي للحظة الاستثنائية.

وإذا كان من المبكر تقويم مستوى نجاح التجربة السياسية للثورة التونسية إلا أن المؤشرات الأولية تعكس بدايات إيجابية مدركة أهمية اللحظة؛ وهو الأمر الذي يؤكد قدرة "التوانسة" على تكييفها مع متطلبات التغيير كتحول تاريخي أفرزته الثورة وقاد مسيرتها إلى مشارف نهضة مختلفة عن الماضي، متناغمة مع رؤى الحداثة لحزب يقدم ذاته كنموذج وحيد – حتى الآن – من بين التيارات الإسلامية المدعوة إلى الانفتاح على الآخر.

بيد أن الذي تشهده اليمن كفيل بصهر اللحظة وإحالتها إلى هزات اجتماعية بالغة الجناية على ممكنات التغيير في المستقبل .

في اليمن ثأر يفوق الثورة ويثقل كاهلها، وفي ساحاتها احتباسات حرارية اتفق على امتصاصها لأهداف تكتيكية ولن يلبث الأمر طويلا حتى تبدأ عملية إفراغ مخزونها تبعاً لحاجات الصراع وتقديرات أطرافه.. إننا لا نرى في اللحظة الثورية بنموذجها اليمني غير كم هائل من المواد الحافظة خمائر الماضي وفطائره..عقارب الساعة في اليمن تستدعي معالجات من نوع آخر والأيام القريبة كفيلة بالإفصاح عن طبيعتها..؟

لكني أعود بصحبة اللحظة إلى طبيعة التأوهات العربية.. آه يا زمن, و لسوف أردد مع فنان العرب محمد عبده (زمانك زمانك.. يعلمك بالناس و بالناس تعرف زمانك)!