كيف نعمل على تحطيم وتهشيم الظنون التي يغذيها الخوف وتبنيها الهواجس لتصبح سجنا عاليا من جدران المسكنة والضعف والخور، نخفي كل ذلك تحت مبررات خوفنا الجاهل، وهمسنا المكبوت لأبنائنا: "انتبهوا.. هذا خطير... هذا مخيف.. الخ"، ليدرك العارفون من خلالها مدى هشاشتنا وجبننا؟!.
لنبدأ أولا بمحاولة الكشف عن معنى الشجاعة والجبن، فالشجاعة في نظري لا فرق بينها وبين الجبن سوى شعرة بسيطة كالشعرة التي بين الجنون والعبقرية، والشعرة هي الحدس.
الشجاعة شعور مرتبك يبني اندفاعه على حدس الفوز، والجبن شعور مرتبك يبني تخاذله على حدس الخسارة، ولهذا يقال في الحروب: أعطني مئة عسكري من جيش منتصر، ولا تعطني ألفا من جيش مهزوم، فالهزيمة في النفس أم البلايا، ولهذا قالت العرب: كلم السنان ولا كلم اللسان، فالسنان يضر الجسد، واللسان يكلم الروح، وما جدوى جسد بروح مكلومة، أما الروح إن كانت وثابة فلا يعنيها الجسد بشيء، فلقد كان أحمد ياسين مشلول الجسد أثقل على العدو الصهيوني من ألف راكضٍ مشلول الروح.
في القرية إذا قتل أحدهم ثعبانا، تسامعت به كل البيوت... أوصافه... حركاته... الخ، كفعل يدل على مؤشرات الشجاعة، بينما يأتيك ذلك الشاب الناعم في بنطاله "الجينز" والذي يعمل في سنته النهائية تخصص الأحياء، ورسالة تخرجه عن الثعابين، ليمسك بكل هدوء هذا الثعبان، ثم يطلقه ليمسك بآخر بعد أن يخرجه من جحره ويضعه في الكيس حيا، ليذهب به إلى مختبره... ساخرا في نفسه من أهل القرية المحيطين به عندما يتعجبون من شجاعته، غير مدركين أن الأمر عنده لا يتجاوز "العلم والمعرفة"، أكرر "العلم والمعرفة"، أكرر للمرة الثالثة "العلم والمعرفة"، فبهما أدرك النوع السام من غيره، وأصبح يحاذر من لدغة الثعبان السام كما يحاذر في مختبره من كسر دورق أو سقوط قطرة حمض على يده فقط.
بالعلم والمعرفة نزيل جدراناً خرسانية من أوهامنا التي نعيشها، كأخبار السعلاة التي تحكى عن أحدهم، أنه كان يسير في واد مظلم موحش والسعلاة تتأوه فيه من شجرة إلى أخرى، وقد التقيت الشيخ في طفولتي وسألته عن شجاعته تلك، ضحك وقرص أذني هامساً فيها: الجبناء يا ولدي من يصنع أسطورتك، ولهذا كانوا يخافون السير في هذا الوادي ليلا، فقالوا: فيه سعلاة تتأوه من شجرة إلى أخرى... وعندما ذهبت أستجلي الخبر، سمعت العشرات من الحمام البري عندما أقترب من شجرة إلى أخرى تبدأ بالهديل.... والخوف يا ولدي أحال الهديل إلى تأوه سعلاة. فسألت الرجل العجوز: ولماذا لم تخبرهم؟ فقال غاضبا: وهل تريد مني أن أجرح كبرياءهم؟ ولو فعلت وعريتهم أمام خوفهم لكرهوني وتمنوا الشر لي كي لا أصبح شاهدا على تاريخ الخوف المخزي بداخلهم.. وها أنذا بعد هذه السن أفضي لك بسر "السعلاة المتأوهة" فلا تخبرهم بما قلته لك... وإذا امتدحوني بحضورك فلا تجرح كبرياءهم بإعطائهم الحقيقة، بل سايرهم وجاملهم، لكن إياك ثم إياك أن تسمح للخوف أن يزرع بذوره في تربة قلبك، فالذكاء المقترن بالطبع الأصيل سيجعلك تهزم كل خوف تواجهه بحياتك، وتذكر دائما.. دائما أن الخوف قرين الجهل، وبالمعرفة تهزم الخوف، وبالجهل ستخاف حتى ظلك لتصنع من هذا الخوف علما وأدبا اسمه أدب "السعالى والوعالى" فتورثه لأبنائك من بعدك، ويا لخيبة هذا الإرث والتراث.
شكرا لهذا الشيخ ورحمة الله عليه في قبره، فعندما أصبحت مراهقا حاولت أن أثبت له شجاعتي في شيء ما، رغم أن قلبي كان يخفق بشدة خوفا مما سأقدم عليه، فحكى لي حكاية الشاب الذي أمسك بالثعبان حيا بيده، فقال له والده: لقد أدركت الشجاعة يا ولدي من حيث ضيعت العقل، كان يكفيك من هذه الزاحفة العصا. فكانت آخر وصاياه أن لا أضيع العقل في سبيل الشجاعة، ولكنه أضاف شرطا حيرني حتى الآن عندما قال: وتذكر أيضا يا ولدي أن العقل أيضا مبرر الجبناء.
وها نحن في هذا المقال، نحاول معا أن نبحث عن هذا الصراط العقلي، بين الشجاعة المتلفة والجبن المخزي، لعلنا نعيش أحرارا من أوهامنا المخجلة في كل نواحي حياتنا الاجتماعية والسياسية والفكرية وعموم ما يحقق تمثلنا كمشاركين في هذه الحضارة الإنسانية، فلا نخش إلا الله، وما لا حيلة لنا فيه من أمثال الذئب على غنمنا.