تدخل جناح باطنية النساء في مستشفى عسير تشاهد حالات مؤلمة، لكن يبقى منظر ثلاث فتيات عالقاً في ذهنك. ثلاث زهرات بريئات كن ضحية زواج فاشل انتهى بالطلاق. ضحية أب وأم عرضاهن للضرب والتعنيف والإهانة حتى داخل المستشفى لدرجة أدت لحالة فصام أصابت اثنتين منهن. وحالة تشنج تعاود الثالثة باستمرار. الطفلات الثلاث رفضن الخروج من المستشفى لشدة خوفهن. الأدهى أنهن أشبه بالسجينات، ولا يسمح لهن بمغادرة الغرفة، وليس في الأفق أي أمل لحل مشكلتهن رغم تشكيل لجان من تلك التي تطول إجراءاتها.
بالمقابل، اضطر أحد المواطنين الكويتيين للهرب من الولايات المتحدة في ليلة ظلماء حتى لا تقوم الولاية بسحب ابنتيه من حضانته وإحالتهما إلى أحد البيوت الآمنة التي تستخدمها لإيواء ضحايا العنف الأسري من الأطفال. زوجة الرجل ضربت إحدى الطفلتين على يدها، لتوقف صراخها عندما كانت الأم مشغولة بقياس بعض الملابس. التقطت كاميرات المحل التجاري صور هذا التصرف، والذي نعتبره وسيلة لتهدئة الأطفال في عالمنا العربي.
بعد البحث في إيصالات الزبائن والمشتريات ومن خلال بطاقة الائتمان توصلت الجهات الأمنية لمعلومات الأسرة وموقع سكنها. توجه ضابطان من قسم مكافحة العنف الأسري وقدما للأسرة مذكرة تطالب الوالدين بالحضور خلال أسبوع لدى القسم لإيضاح موقفهما من حادثة الاعتداء تلك. سأل والد الطفلة الذي - كان يحضِّر للحصول على درجة الدكتوراه - بعض المحامين عن مصير القضية، خصوصاً أن المندوبين عرضا عليه فيديو يصور زوجته وهي تعنف طفلتها بصوت عالٍ ثم تضربها. أكد له أحد المحامين أنه قد يفقد حضانة طفلتيه على الأقل في المدى المنظور إذا عرضت الصور على قاض في أي محكمة في كاليفورنيا.
حزم الرجل أمره وهرب إلى وطنه ومعه كل أسرته، مضحياً بسنتين من الدراسة، لكن أسراً عربية وغير عربية لم تنج من طائلة أحكام قضائية بسحب الحضانة.
بدأ التشدد في محاربة العنف الأسري في الولايات المتحدة خلال سبعينيات القرن الماضي، حيث تدخلت الشرطة في أكثر من 85% من حوادث العنف الأسري. كثفت الجمعيات النسوية حملاتها لمحاربة العنف الأسري خلال تلك الفترة لدرجة أنها رفعت دعاوى إهمال ضد أقسام الشرطة في أوكلاند ونيويورك وغيرها، بدعوى أن قضايا العنف الأسري لم تُعطَ الاهتمام الكافي.
تطور تعريف العنف الأسري ليشمل إمكانية أن يتسبب السلوك في أثر جسدي أو نفسي في المستقبل. بناء على ذلك، قضت محكمة في نيوجرسي بإلغاء حضانة أبوين لأطفالهما الثلاثة بسبب إطلاق اسم "هتلر" على أحدهم. هل لاحظتم الفرق بين تعاملنا وتعاملهم مع حالات العنف الأسري؟
استخدام معايير كهذه سيجعل أغلب - إن لم يكن كل - أطفالنا ضيوفاً في بيوت الحماية. هذا المستوى من الحماية والحذر ليس له مكان - ولا حتى جزئياً- في مجتمعاتنا. المجتمع العربي – بشكل عام – يرى أن استخدام العنف الجسدي هو أحد وسائل التأديب، ويعتبر العنف النفسي وسيلة لتحسين السلوك (مثل التحفيز للتفوق على الأقران أو الوصول لمستويات عليا دراسياً أو سلوكياً). تعاني الزوجات من العنف والتعامل المجحف والاعتداء الجسدي كما حدث في قضايا كثيرة، وأقسام الشرطة لا تتفاعل مع هذه القضايا بالشكل المناسب، بسبب تأثير الثقافة والتقاليد.
كان العنف وسيلة مشروعة في المجتمع خلال أغلب سنوات القرون الماضية، باعتبار أن الثقافة الفردية والجمعية كانت تؤمن أن هذا هو الأسلوب التربوي الوحيد. كما كان الأب يفرض احترامه في المنزل من خلال شخصيته العنيفة والقوية، إلا أن هذه المفاهيم بدأت في الاختفاء أوائل القرن الحالي. مع ذلك، ظهرت مؤخراً في مجتمعنا قضايا عنيفة جداً. العنف ضد المرأة والطفل أصبح أمراً نقرأ عنه في الصحف بشكل شبه يومي. بلغ مجموع قضايا العنف الجسدي المبلغ عنها في المملكة 961 قضية، كما بلغ عدد قضايا العنف النفسي 273 قضية. هذا الرقم لا يمثل حتى واحدا بالمئة من عدد القضايا الفعلي. منها حالات كانت الإصابات فيها خطيرة وغير مبررة مثل الكسور والحروق بالمواد الكيماوية والاعتداء بآلات حادة وحتى الاعتداء الجنسي، وصلت حتى القتل.
انعدام التوازن النفسي داخل الأسرة نتيجة ضغوط الوضع الاقتصادي والاجتماعي. استخدام المخدرات وآثارها الخطيرة على السلوك هي من الأسباب المهمة. كما تشمل الأسباب عدم وجود قوانين تمنع الدرجات الأقل من العنف، مما يؤدي إلى ظهور تجاوزات خطيرة. يضاف إلى هذا ضعف الوازع الديني لدى الكثير ممن يرتكبون مثل هذه الجرائم.
يستدعي هذا التطور الخطير سن أنظمة وقوانين حماية تحد من انتشار هذه السلوكيات الخطيرة. كما يجب أن تكون جمعيات الحماية الأسرية أقرب للضحايا، وأن تعطى حقها من الاحترام من قبل جميع الجهات الأمنية والقضائية. الجامعات والمعاهد والمراكز المتخصصة مطالبة بدراسات وبحوث علمية تسهم في الكشف عن أسباب هذا التحول الاجتماعي المقلق، وتقترح الحلول التي تضمن التعامل الحازم مع هذه القضايا.
لا نريد المستوى الأميركي من الحماية فهو مستحيل هنا، ولكن حالة الفتيات ليس مكانها المستشفى، ولابد أن يتم حلها خلال فترة لا تتجاوز الأسبوع، لأن وضعهن مرشح للتدهور بسرعة، وهو ما أكده كل من قابلهن أو دخل "سجنهن"، أقصد غرفتهن.