ينطلق أي نظام معرفي أو ثقافي من موقف من العالم، العالم بأشيائه وكائناته. العالم كموقف يجد الإنسان نفسه فيه بدون إرادة في الاختيار أو قدرة مضمونة على التغيير. بمعنى أن الإنسان وُجد في ظل ظروف شعر للوهلة الأولى أنه الحلقة الأضعف فيها. وانطلاقا من هذه المشاعر تحدد موقفه من ذاته ومن الآخرين. تثبت هذه النظرة توجهات الإنسان الأولى لعبادة الظواهر الطبيعية والأشياء من حوله. عبادة الشمس والنار والسماء والأرض. وكان الإنسان يقدم لهذه الأشياء القرابين والنذور تعبيرا عن طاعته وخضوعه الناتجين عن خوفه.
لم يكن الإنسان يعي الفرق بينه وبين الأشياء الأخرى ولذا فهمها وتعامل معها من خلال فهمه لذاته. حسب أنها مثله. كان يعتقد أن الأشياء تحس وتغضب وتأكل وتشرب وتفرح وتحزن. شواهد هذه المرحلة من حياة الإنسان تسجّلها الأساطير البشرية القديمة والممارسات الإنسانية التي تعرف عليها علماء الأنثروبولوجيا وعلماء الآثار. استغرق الإنسان وقتا طويلا ليدرك ذاته. انطلاقا من إدراكه للفرق بينه وبين الأشياء الأخرى وكان هذا الإدراك منطلقا لتغيير موقفه من العالم من حوله. وسيشهد التاريخ أن الإنسان كلما وعى ذاته أكثر تغيّر موقفه ممن حوله في اتجاه لمزيد من التحرر والاستقلال.
انطلاقا من موقف الضعف والخوف بدأ التسليم مع الإنسان. أي إنه تصرف كما يتصرف الخائف الجاهل في كل ظرف، مطيعا مسلّما زمام فكره وتصرفاته لغيره. على مر التاريخ كان دائما هناك خوف من شيء ما يقبع خلف أنواع وأشكال التسليم الإنساني. الخوف كان مجالا واسعا أحاط دائما بوجود الإنسان، كان في الابتداء من الطبيعة ثم استمر بعد ذلك بطرق وأشكال مختلفة، إلا أن الخوف كان باستمرار أداة في يد ما تسعى للحصول على تسليم الإنسان.
العقل التسليمي عقل خائف ويقوم على الخوف كأساس ومشروعية له. الخوف من الطبيعة كان في البداية ثم تزايدت وتطورت مسببات الخوف مع الوقت. الخوف من كائنات مفارقة، خارج العالم، آلهة متعددة، الخوف من الموت. الخوف من الآخرين، الخوف من المستقبل ثم الخوف من العقاب والتعذيب. في هذه الأجواء كان التسليم يبدو أمرا واقعا وحتميا لا مفر للإنسان منه. فهو طريقته الوحيدة للسلامة والأمان، هذه هي الأمور في عمقها وإن حاول الإنسان على طول الخط أن يجعل من التسليم أمرا مقنعا أو بوصفه حقا في ذاته، إلا أنه ما يلبث حين يخشى أن تخرج الأمور من يده حتى يعود إلى التذكير بأساس التسليم، الخوف.
كان الخوف ولا يزال هو الضمانة لاستمرار التسليم ولذا فقد ارتهن التسليم بالخوف قديما وحديثا، يمكن هنا أن أستشهد بموقفين أحدهما قديم والآخر حديث يثبتان استمرار هذه العلاقة. قديما كانت تتأسس الثقافات على فكرة تساوي مفهوم الغريب والعدو. الغريب مجهول ومخيف ولا بد من وضعه في سياق العداوة باستمرار. استثمرت النخب القديمة هذه المشاعر لتحرك الجموع ضد من تريد حفاظا على مصالحها ولكن دائما تحت شعار الخوف من الآخر المجهول. في العصر الحديث ومع القوّة العظمى في العالم، في الولايات المتحدة الأمريكية حين ترغب الحكومة في تسليم المواطنين لها فإنها تعمل بجهد على وضعهم في موضع الخطر، كان التذكير بخطر الشيوعيين ثم القاعدة والمجاهدين يترافق باستمرار مع خطوات الحصول على موافقة أو تصويت. من يسمع خطابات المرشحين الجمهوريين اليوم يجد أنها ترتكز على فكرة جوهرية وهي أن العالم مليء بالأشرار الذين يريدون الفتك بأمريكا وأن الشعب الأمريكي يجب عليه باستمرار دعم جهود التسلح والدفاع. لن نستغرب إذا علمنا أن شركات الأسلحة هي الداعم الأكبر لهذا الحزب. ما يخفف الأثر اليوم أن صوت السياسي الغربي المتعصب هو واحد ضد عدد هائل من الأصوات المعارضة التي تعمل على تفكيك خطابه باستمرار. في الماضي كان هناك صوت واحد. وحين لا تسمع إلا صوتا واحدا فاعلم أن الخوف يحيط بالمكان.
تطورت آليات التخويف مع تطور الإنسان واستطاع الإنسان أن يبتكر العديد من مصادر الخوف الجديدة. ربما في العصر الحديث لم تعد ممارسة التخويف تمارس بشكلها المباشر والعلني إلا في بعض المناطق من العالم التي تقع خارج سياق التطور العام، وهذا بالذات ما يجعل من البحث في عمل التخويف وآلياته بحثا يحتاج إلى عملية حفر وكشف مستمرة، حفر عن جذور ومبادئ الأفكار والممارسات وكشف باستمرار للأغطية والحجب المتعددة والمتلونة. من هنا تأتي أهمية البحث في مفهوم السلطة بوصفها صانعة وحامية التسليم. السلطة لا باعتبارها فقط السلطة السياسية بل باعتبارها حالة تتواجد في كل علاقة. السلطة تكمن بين الإنسان وذاته، بينه وبين الآخرين، وبينه وبين المعرفة والمؤسسات.
فحص العلاقات الفردية والجماعية والتفتيش عن وجود السلطة في طبيعتها هو عمل تحرري. ولذا نجد أن الدول التي تتأسس على فكرة الحرية تضخ كميات هائلة من الجهد والمال لمراقبة العلاقات في المجتمع وتتبع حضور السلطة فيها. إلا أن السلطة، باعتبارها أساس التربية، تتغلغل حتى إلا علاقة الإنسان بذاته، بفكره، بجسده. ربما لو فحصنا بعمق هذه العلاقات في داخلنا لوجدنا أن الخوف جوهري في تكوينها وأن التسليم عنوان لا يكاد يفارقها.