الصفة الأبرز التي انطلق منها الزملاء في صياغة وكتابة وتوقيع بيانهم الأخير ليست صفة قبلية ولا صفة دبلوماسية ولا مهنية ولا مناطقية، بل انطلقوا في ذلك من صفتهم الثقافية. بمعنى أن الرافعة الثقافية وحدها واستشعار دور المثقف وحده، هو الذي وفق توقيعهم للبيان، وبالتالي فهو جزء من حركة داخل مشهدنا الثقافي، وهو بلا شك الحدث الأكثر إثارة للجدل طيلة هذا الأسبوع.

هذا يفرض سؤالا مؤداه: إذا كانت الصفة الجامعة لموقعي البيان هي صفة ثقافية في نهاية الأمر، وإذا كان البيان في مجمله واقعة ثقافية فلماذا يأنف كثير منهم من أي تناول أو نقاش ثقافي حول البيان وقراءته وقراءة الطريقة التي تعامل بها مع الحدثين اللذين أشار إليهما، خاصة أن كل من تناولوا البيان وكتبوا عنه، لم ينطلقوا من صفة أمنية أو جهوية أو مناطقية وإنما انطلقوا هم أيضا من صفة ثقافية.

سيرد أحد ما بأن الكتابة عن البيان وتناوله بهذه الطريقة الواسعة إنما تشير إلى حملة منظمة ومحددة وهو في الواقع أمر يحتاج إلى كثير من الوضوح والابتعاد عن الاتهامات السريعة، ذلك أن أي حدث ثقافي سواء كانت قضيته سياسية أو ثقافية أو اجتماعية غالبا ما يستأثر باهتمام الكتاب والإعلاميين وخاصة ممن يعتبرون أن فيهم معنيين وبشكل مباشر بهذه القضايا، والقياس على كثير من الأحداث والفعاليات التي حصدت مقالات وردود أفعال واسعة يؤكد أن القول بوجود حملة منظمة ليس سوى شكل من أشكال رفض التداخل مع أي تناول يمنح ذاته صفة الرفض والمواجهة، لأنه يـرى أن كل مـن تداخـلوا معه، يفتقدون بالضـرورة لتلك الصفة وبالتالي هم إما مداهنون أو متواطئون.

هذا في الواقع يقودنا إلى أن ثمة أزمة حقيقية يعيشها المثقف وهو يقرأ هذه التحولات التي تمر بها المنطقة العربية، والتي ترتبط في الغالب بظهور جيل جديد من الشباب الذي لا تخضع مواقفهم لتلك الاعتبارات القديمة التي تخضع لها مواقف المثقف التقليدي، الذي وجد نفسه مضطرا لافتعال المعارضة المطلقة غالبا لإيجاد نسب بينه والشارع الذي غادره، وهو واقع لا ينطبق فقط على المثقف التنويري أو الاجتماعي فقط بل على المثقف الديني كذلك.

هذه الشرائح الثقافية العتيقة، تعيش الآن أزمة حقيقية في دورها في عمليات التأثير والقيادة والمكانة، وحتى وهي تتعامل مع هذه الأزمة، لا تجد مناصا من التعامل معها بذات الأدوات والوسائل واللغة القديمة لتظهر أبرز صفات تمثل خطابها وتتمثل في افتعال المعارضة المطلقة واحتكار المواجهة الشجاعة والمصداقية. وهي صفات تعود بنا إلى نموذج الفارس في الثقافة العربية، الذي ظل المثقف التقليدي مأخوذا به ومهيمنا على كثير من أطروحاته حتى في الزمن التي تحولت فيه مفاهيم القوة وصعد خطاب العامة ليصبح أقوى تأثيرا من خطاب النخبة.

هذا الركض نحو (الفروسية) جعل استقبال كثير من الإخوة والزملاء لكل ما يكتب عن البيان وكأنه نوع من الهجاء، لينكشف مأزق ثقافي آخر يتمثل في ربط الصواب بموقف واحد وجعل المنطق الصادق حكرا على اتخاذ موقف معين.

يحمل البيان قضيتين تمثلان أبرز الأحداث التي شهدتها المملكة مؤخرا، من محاكمة ما بات يعرف بخلية الاستراحة في جدة، إلى أحداث القطيف، ولأن المثقف في الغالب يرتبط في مواقفه بصرامة المعطيات العلمية الحقيقية في تعامله مع أي قضية مستصحبا في ذلك ما تشهده من آراء متنوعة، فقد توقف كثيرون ممن قرؤوا البيان عند تسمية جانبه الأول بـ: محاكمة الإصلاحيين، وهو عنوان يحمل صبغة شعرية بلاغية لأنه يربط الجزاء بمن لا يصح عليهم الجزاء لأنهم إصلاحيون، وبالتالي فهي محاكمة لمن لا يستحق المحاكمة لأن كلمة (إصلاحيين) تشتمل على توصيف الفعل وقيمته حين تصفه بالإصلاح، ولم تقل: محاكمة الناشطين أو محاكمة المتهمين مثلا. وهنا يغيب المنطق العلمي الذي يفترض به أن يؤطر أطروحات المثقفين وأن يحكم توجهاتها ورؤيتها. وبالنظر إلى أن الأحكام الصادرة بحقهم قابلة للاستئناف ولمختلف الإجراءات القضائية.

أحداث القطيف في الواقع تعرضت لكثير من الظلم في التعامل الإعلامي والثقافي معها، يبدأ ذلك من نسبتها للقطيف أو للعوامية أو لغيرها من المناطق، وهو أمر غير صائب على الإطلاق، فالقطيف وغيرها من المدن ليست لونا واحدا ولا موقفا واحدا، بل إن أهل تلك المناطق لا يختلفون عن غيرهم من السعوديين الشرفاء المؤمنين بأرضهم وبمستقبلهم وشركاء في مختلف التطلعات التنموية. وليس من المنطق التعامل مع أحداث لأفراد على أنها علامة على منطقة أو مدينة بأكملها. ثم إن ما تحتاجه أحداث القطيف من المثقفين ليس تدعيم المنطق الاحتجاجي وتحويل ما حدث من واقعة إلى أزمة.

إن الإصلاح ليس فعلا مطلقا في الهواء، إنه مرتبط بسياقه في كل ثقافة ومجتمع، ومع اتساع دائرة الأزمة في واقع المثقف الحالي وشعوره بالغربة أمام كل هذه التحولات يصبح البحث عن خطاب جديد وأدوات جديدة أبقى وأصلح من استدعاء الأدوات القديمة لخطاب قديم.