بداية لنتأمل معاً هذه العبارات: "إشارة إلى.. ولاستكمال ما يلزم لخطابنا رقم... وتاريخ... فإننا نفيدكم بالتعديلات الجديدة على هذا التعميم"، أو عبارة: "بشأن التعميم الصادر بتاريخ... ورقم... وبناء لما تقتضيه مصلحة العمل فإننا نفيدكم بإلغاء ذلك التعميم وإقرار التعميم التالي..."، عبارات و كلمات باتت جزءاً لا يتجزأ من حياتنا الوظيفية نستقبلها يومياً مُسَلّمين بكل ما فيها من مضامين، فليس عليك سوى أن تشخط شخطتك المباركة على التعميم للعلم بالشيء على قاعدة "لا تجادل ولا تناقش" هذا في أحسن الأحوال; وإلا فُهناك تعاميم سماعية تصعب رؤيتها أو تقصي تحولاتها نتيجة ركامها المتنامي بالعشرات والمئات في روزنامة التعاميم.
والآن دعونا نجُل معا في قراءة سريعة لبعض قصص التعاميم نبدأ من أحدثها:
1- "هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تُحذر أفرادها من تعذيب المخالفين المقبوض عليهم أو لمس النساء، أو الانفراد بهن في السيارات!" السؤال: ما هي أوصاف المخالفين المقبوض عليهم؟ ما العقوبة التي ستطال الموظف إن لم ينفذ التعميم؟ ما هي الإجراءات التي يجب أن يتبعها المواطن في حال عدم التطبيق، بمعنى كيف يأخذون حقهم من هذا الموظف الذي خالف التعميم؟ كل ذلك غير واضح في التعميم.
2- "وزارة التربية والتعليم تُجدد التحذير من استخدام العقاب البدني والنفسي في المدارس". التعميم هنا لا يوضح عقاب المخالف للتعميم ولا يوضح كيفية استرداد الحق من المخالف.
3- منسوبات قطاع التدريب التقني للبنات في المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني من مدربات وموظفات (أرسلن يطلبن النجدة من التّعَسف الإداري، وكثرة التعاميم التي تمارسها (وكالة المؤسسة لشؤون البنات)، وما فيها من طلبات غير إنسانية تنطق بلغة الفوقية والتهديد والوعيد.. نشر في جريدة المدينة "مجلة الرسالة" الخميس 17/03/2011.
4- ما زال الخوف الوظيفيّ الذي يعيشه موظفو البنود والعقود منذ سنوات مستمرا إلى الآن، فاتّصلت شخصياً بأحد هؤلاء الموظفين، قال لي: إني أستفسر بشكل مستمر والإجابة هي: "لم يصلنا التعميم حتى الآن، ولكن القرار صريح بشمولية التثبيت!" إنه أمر يدعو للغرابة فلا يمكن أن ترى نظاماً و قراراً إلا وقد تهافتت عليه التعاميم، نستقبل النظام بتعميم، ونودعه بتعميم.
إنني أتساءل: هل للتعاميم سيادة تتماهى مع سيادة القانون؟ إذا كان الجواب نعم فلماذا هذه المفارقات إذن؟ ولماذا يكتنفها القصور والغموض في كثير من فقراتها؟ وما هو الداعي لكثرتها بهذا الشكل الصارخ بكل ما فيها من تفسيرات متغيرة وتعديلات مستمرة؟ ولماذا - في حال اختفائها - إذا طُلب الاطلاع عليها يمتنع المسؤول عن ذلك، أو يتجاهل الطلب كلية؟! ألهذه الدرجة تتغير التعاميم مع تعاقب المسؤولين؟ ثم لماذا هذا التباين في التطبيق بين منطقة وأخرى ومدينة وأخرى حول حالة واحدة محكومة بنص نظامي واحد؟
إن الفارق بين القواعد القانونية والتعاميم هو الفارق بين النظرية والتطبيق، فالتطبيقات المغلوطة والمتباينة لهذه التعاميم من قِبل المسؤول والتي تفتقد للحس القانوني والمعرفة الحقوقية هي التي أسفرت عن حالة عدم الثقة بكفاءة بعض الأنظمة لدينا، وقدرتها على مواجهة المتغيرات، إنها - أي التعاميم - في عُرف المسؤول البيروقراطي قواعد لا يمكن تجاوزها بأي حال من الأحوال حتى إذا احتج الموظف واعترض على تعميم معين بأنه مخالف للنصوص القانونية الأساسية أو المصلحة التي تحميها القاعدة القانونية اُعتبر أنه غير مبالٍ بالنظام لأنه خالف التعميم. لذا يلزم تنمية المعرفة القانونية في كافة القطاعات على الأقل حتى يعرف الموظف معنى تدرج القاعدة القانونية، والتي تقضي بعدم جواز مخالفة القاعدة الأدنى للقاعدة الأعلى، فلا التعاميم تخالف اللوائح، ولا اللوائح تخالف الأنظمة. أليس من الواجب أن تُجمع الأنظمة والتعاميم في مجموعة متكاملة يكون من حق كل موظف ومواطن الحصول عليها حتى يكون على علم ومعرفة تامة للالتزام بها، والعمل بموجبها؟
ختاماً أقول: لا يمكن الحديث عن سيادة حكم القانون في ظل فوضى التعاميم الجامدة، فحكم القانون ليس الانصياع المطلق للتشريعات واللوائح فقط بل يتوجب ترجمته إلى حيز التطبيق، لأنه إذا لم يجد القانون طريقه للممارسة على أرض الواقع فلا قيمة للاثنين.