بعد غياب يعود البيان وتعود الأسماء المرصوصة في ذيله والممهورة بمهنة الشخص الموقع. والبيانات أشكال وألوان فمنها البيان الطويل ومنها المختصر. منها الديني شكلاً الذي يبدأ بحديث أو آية وينتهي بأحاديث وآيات وأدعية مفصلة بالمقاسات المناسبة وأدعية ملغمة بعموميات وباطنها رسائل دعم للبعض. منها ما يتصف فقط بالمناصحة ومنها ما يحمل نقاطاً ومطالب محددة. أما المهن المصاحبة للموقعين فهي الأخرى مثيرة نوعاً ما. كنا نقرأ في بيانات سابقة مهنا متنوعة لحركيين إسلاميين منها إمام المسجد الفلاني أو قاض في المحكمة الفلانية أو مجرد داعية إسلامي. واليوم نقرأ في البيانات ما يسمى "ناشط اجتماعي" أو "ناشط في الحقوق العامة" أو مجرد "حقوقي" وهذه الأخيرة أصبحت مهنة من لا مهنة له. وقد ذكرت في موقع تواصل اجتماعي قبل يومين هذا السطر: "واضح أن من ضيع مشيته سمى نفسه حقوقي".
في هذا العهد الزاهر الذي تتسابق فيه قرارات التطوير وتحديث الدولة مع سنوات الزمن الافتراضية في تحد بالغ الخطورة لقبول أي تطوير وانتقال من مرحلة إلى أخرى يفترض من المثقف أن يقف للدعم والمؤازرة. دور الكاتب والمتحدث هو تهيئة المجتمع للدخول في مراحل جديدة تتفادى ما أمكن وقوع الصدمات وتفرش الطريق لاتساع التنمية وتنويع أفرع المداخيل والاقتصاد بشكل عام. نعم ما نحن شهود عليه اليوم هو أننا ننطلق بسرعة هائلة تفوق أحياناً تقبل المجتمع نحو المدنية والعالمية التي نسعى بعدها إلى تفرع الاقتصاد وتنوعه وقدرته الاستيعابية. ولهذا فعندما يأتي من يحاول أن يحدث ثقوباً في القارب فلن يلقى إلا الردع إذ إن ثمن السكوت عن ذلك قد يكون باهظاً جداً. وهذا ما حدث في حقيقة الأمر خلال السنوات العشر الماضية عندما ابتلانا الله بالخوارج وأفعالهم ومغامراتهم التي تمكنا بفضل الله ثم بوعي المجتمع وبسالة الأمن أن نحد من أضرارها.
آخر البيانات الذي اطلعت عليه كان البيان الموقع من ستين مواطنا سعوديا وحمل المطالبة بإطلاق سراح ما يعرف بـ "خلية الاستراحة" في محافظة جدة. وهي الخلية التي تمت محاكمة أفرادها وإدانتهم قبل أسبوعين بعد أن تم رفع لائحة الادعاء عليهم قبل أشهر متضمنة تهماً خطيرة كان بإمكان هؤلاء الدفاع عنها لكنهم صادقوا عليها. إضافة إلى ذلك طالب البيان وبخلط عجيب ونادر بالتحقيق مع رجال الأمن متهماً إياهم باستفزاز المتظاهرين في محافظة القطيف ودفعهم إلى استخدام السلاح. وبالرغم من صدور بيان رسمي حول ما وقع في القطيف إلا أن بيان الإخوة هنا لم يشر إليه ولم يعتمد على ما جاء به من تفصيل. البيان في حقيقة الأمر يكذب بيان وزارة الداخلية بهذا الشأن تماماً كما كانت تفعل القاعدة في زمنها. كلنا بالطبع يتذكر تلك البيانات في إصداراتهم التي تنشرها بعض المواقع وهي تحمل معلومات وتصور أحداثاً وكرامات لم تقع أبدا.
الغريب في موضوع البيانات أنها لا تأتي إلا بتوجه واحد وهو الوقوف ضد الدولة ومحاولة إبراز عضلات الموقعين من خلال عبارات حادة وصارمة. عندما عاد الملك حفظه الله من رحلة العلاج قبل عدة أشهر وأصدرت الحكومة تلك الحزمة من القرارات التنموية التي صبت لمصلحة المواطن وتحسين مستوى دخله لم يظهر أي بيان يؤيد أو يشكر. ولولا قناعتي بأن البيانات أصلاً غير مرغوب فيها لجمعت مليون توقيع يؤيد بيان الإسكان. وربما جمعت مليونا آخر يؤيد قروض بنك التسليف ومليونا آخر يؤيد تأنيث مهنة البيع في المحال التجارية الخاصة بلوازم النساء التي ستوفر عشرات البلايين من الريالات من تحويلات الأجانب. كثير من البيانات التي يمكن تحريرها وجمع الملايين من التوقيعات وليس فقط ستين. كما أن اللافت أن بعض الأسماء التي وقعت البيان المذكور، وهي أسماء لها حضورها في المجتمع، لا تتحدث لا من خلال لقاء عابر في الإعلام ولا من خلال مقال في صحيفة عن إيجابيات تحدث في هذه البلاد. متى شاهدنا مثل هؤلاء في حديث إيجابي يدعم توجهات الوطن المستقبلية؟ متى ظهرت هذه البلاغة الخطابية لتهيئة الجيل المعاصر لتحديات التنمية المستقبلية؟ نعم لا يعني الخوض في مثل هذه الأحاديث الإيجابية المشجعة عدم توجيه النقد البناء وتقديم المشورة للمسؤولين والحث على معاقبة المقصرين لكن أن تنبري تلك الأقلام والألسن فقط للتشكيك والتحريض ورسم صورة محبطة وإرضاء بعض الأطراف الأجنبية "الحقوقية" فهذا عيب والله.
الذي لا بد لنا أن ندركه أننا دولة فتية حديثة يافعة في عمر الحضارات وبنائها. أنا شخصياً عاصرت فترة ما قبل الكهرباء وكنت أتسابق مع أطفال الحارة على تعبئة جالون وقود الكيروسين من موزع صغير وضع خزانه على عربة يجرها حمار. ومع وصول الكهرباء كنا فقط تسعة طلاب على مستوى منطقة حائل في الصف الثالث الثانوي. فكيف بجيل مثل جيلي أن يتنقل من تلك الأزمنة إلى أزمنة قد توازي في مبادئها وشموليتها أزمنة ما بعد الثورة الفرنسية كما يطالب به ظاهر البيان؟ أنا هنا لا أضع المملكة في عصور أوروبا المظلمة بل أصور فقط الانتقال من حقبة إلى أخرى وأربط ذلك بالزمن الذي تستحقه هذه النقلة كما علمنا التاريخ.
لنضع ثقتنا في الأجهزة الأمنية وهي الأجهزة التي أبلت بلاءً عظيماً في السنوات العشر الماضية وتفوقت على خبرتها بل وشدت انتباه العالم في محاربتها لأعداء هذا الكيان. لنرسم على وجوههم آيات الثناء والتقدير والعرفان. كم من فقيد ذهب برصاصة مغرر به وبقي أفراد عائلته يتامى لا والد لهم. أين حماس كتاب البيانات لمناصرة هؤلاء ودعمهم؟ لنضع ثقتنا في الأجهزة القضائية رغم البطء وإطالة الوقت في الجلسات وضرورة تقنين القضاء برمته. في نهاية المطاف نحن كيان حديث يبني نفسه بنفسه ولم يرث مدونات من مستعمر ولا توجد لدينا أنظمة متقدمة نستند عليها. سيبقى التصحيح مستمراً والتحديث مستمراً أما العبث بالكيان والتشكيك بالشرعية من خلال صياغة بيانات ومواقف مريبة في محتواها وتوقيتها فهي خطوط حمراء أتمنى من إخواني وأخواتي أبناء وبنات هذا الوطن ألا يقتربوا منها وألا يسمحوا لأحد أن يدفعهم إلى ذلك.