المنظمة العالمية للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) تعد من أهم المنظمات العالمية، وأهم أهدافها هو بناء جسور السلام بين البشر عن طريق التربية والعلم والثقافة والاتصال بالإضافة إلى الاهتمام بالإرث الإنساني وثقافات الشعوب والمحافظة عليها وحمايتها. كما أن أهداف وأعمال المنظمة قد توسعت لتصبح ذات دور كبير في الكثير من النواحي التي تهم الإنسان في الألفية الجديدة لنشر السلام وتحسين الاقتصاد وكافة الأمور الأخرى، بالإضافة إلى تعزيز سبل التواصل بين دولها الأعضاء، وكان آخرها ما قامت به في الأيام الماضية من ضم دولة فلسطين، مما يمثل نصرا دبلوماسيا للكيان الصهيوني يساعد في حفظ المواقع الأثرية في فلسطين وحمايتها.
لعل انتخاب المملكة قبل أسابيع نائبا لرئيس المجلس التنفيذي للمنظمة في العامين القادمين يعد كسبا عظيما للمملكة يتحتم علينا أن نستفيد منه؛ فالمجلس التنفيذي أهم سلطة في المنظمة ويمارس مهامه طوال العام، وفي مقدمتها متابعـة أعمال ومشروعات المنظمة وجدول أعمال المؤتمر العام والمراقبة الدائمة لكيفية تنفيذ الأنشطة في المناطق الجغرافية وتقنين الإصلاحات في مختلف مجالات المنظمة. ذلك يجعلنا نتفاءل أكثر بأن تكون للمملكة حظوة أكبر من قبل المنظمة، خصوصا في حفظ الإرث الإنساني بتسجيل المواقع الأثرية المهمة ضمن التراث العالمي، خصوصا بعد أن نجحنا في إضافة مدائن صالح والدرعية للقائمة في الأعوام الأخيرة الماضية.
كنت في الأسابيع الماضية قد راسلت الدكتور زياد الدريس ممثل المملكة وسفيرها في اليونسكو لسؤاله كيف يمكن أن يكون لمنطقة الأخدود الأثرية تواجد ضمن المناطق المسجلة في التراث العالمي (باليونسكو)، وكانت مراسلتي له بعد أن اقترح علي ذلك الأخ العزيز الأديب محمد زايد الألمعي، وللحق؛ عندما بعثت برسالتي إليه عبر البريد الإلكتروني مستفسرا، لم أكن أتوقع أن أحظى برد سريع، ولكنه لم يمر على رسالتي يوم واحد إلا ووجدت التجاوب الكامل وفيه شرح واف لكامل الخطوات التي يجب أن نتعامل بها لتسجيل أي منطقة أثرية في الوطن، وأن يبدأ ذلك من خلال هيئة السياحة والآثار وهي التي تتولى الأمر وكانت الرسالة مليئة باللطف الذي يدل على رقي أخلاق سفيرنا وترحيبه بالتواصل مع المهتمين لما فيه مصلحة الوطن.
اتصلت حينها على فرع السياحة والآثار بمنطقة نجران، ولقيت تجاوبا جميلا من مديرها الأستاذ صالح آل مريح، الذي وعدني بأن يكون هناك ملف متكامل للأخدود يرفع لسمو رئيس الهيئة العامة للسياحة والآثار لاستكمال الإجراءات، تمهيدا لرفع طلب قبول تسجيلها في المنظمة، وكنت قد تحدثت معه عن ضرورة تسجيلها، خصوصا أن الأخدود تحمل قيمة ثقافية وإرثا قديما جدا بخلاف القيمة المعنوية التي اكتسبتها من ذكر قصتها في سورة البروج.
كم سعدت وأنا أرى هذه السلاسة من القائمين على السياحة والآثار، وكذلك سفيرنا لدى اليونسكو، وحرصهم الشديد على ضرورة الحفاظ على التراث والإرث الإنساني الخالد في كل أرجاء الوطن، والذي لا تكاد تخلو منطقة من مناطقنا منه، ففي اعتقادي أن هذا الوطن أغنى الأوطان من حيث القيمة المكانية والإنسانية والتراثية، ولذلك علينا أن نسعى جاهدين لبذل المزيد في البحث والتدقيق والتنقيب عن كل الآثار الموجودة به وإبرازها للإنسانية لوصل الحاضر بالماضي وإكمال الصورة المشرقة لعالمنا في التاريخ العالمي.
ننتظر الكثير من الهيئة العامة للسياحة والآثار في عمليات التنقيب والحفاظ على المواقع الأثرية، والاهتمام بها ليتسنى للباحثين والمهتمين بالآثار معرفة الكثير من الحضارات التي عاشت على أرضنا وتركت بصماتها على صخورها وفي جوفها وفي أرواح أبنائها.
ولو رجعنا لموقع الأخدود مثلا، فإن الزائر له لا يجد أي دلالات مهمة سوى بعض من الرموز والآثار التي نقب عنها سابقا ولا نعرف عن الأخدود سوى قصة المحرقة التي تواردت عبر التاريخ والكتب وذكرت بالقرآن الكريم، وأعتقد أن الوضع سيكون مختلفا لو كان هناك اهتمام أكبر بالتنقيب، وسنتمكن من معرفة ما قبل وبعد المحرقة من حضارات ومن كنوز أثرية ستجعل للمنطقة قيمة أكبر تسهم في إثراء المعرفة بها، وجعلها ذات مكانة سياحية عالمية تسهم في دعم الاقتصاد الوطني، وهذا القول ينطبق على بقية المواقع الأخرى.
إن هناك جهلا عاما كبيرا بالمواقع الأثرية والتاريخية التي تستحق الزيارة في المملكة، إذ لا توجد أي نشرات توضيحية للمواقع، أو تثقيف للمواطن بالأماكن الأثرية، يضاف إلى ذلك القصور الواضح في الخدمات في الأماكن الأثرية، وقلة المرشدين السياحيين بتلك المواقع التي لو وجدت اهتماما أكبر لساعدت كثيرا في تشجيع السياحة الداخلية، ولكانت حافزاً للمستثمرين كذلك في بناء الفنادق والمحلات التجارية التي تخدم الزائر لتلك المناطق السياحية.
نحن نعيش على سطح كنز تاريخي يسيل له لعاب عشاق الحضارة والتاريخ في جميع أنحاء العالم, يستمد روحه وقيمته من آلاف السنين التي عاشها الإنسان هنا يبني حضارات سادت ثم بادت, ولو التفتنا بالطريقة الصحيحة لهذا الإرث لكان أحد أهم أذرعة الاقتصاد في البلد، في وقت نحن في أمس الحاجة إلى تنويع مصادر الدخل القومي والابتعاد بها عن الاعتماد على الصناعات البترولية. كما أن القيمة الاعتبارية والمعنوية لهذا الإرث ستكون وقودا لا ينضب للأجيال القادمة تستلهمه في رسم مسيرة مستقبل الوطن.