يواجه مسؤولو الميزانية في جميع الوزارات والمؤسسات والهيئات الملزمة بتطبيق نظام الخدمة المدنية إشكالية التوجه سنوياً بأعداد كبيرة من طلبات إحداث وترقية وتحوير الوظائف. اضطرار الجهة لإحداث الوظائف لأغراض الترقية يدخلها في دوامة نقاشات طويلة في وزارة المالية ووزارة الخدمة المدنية. تتدخل العلاقات الشخصية على خط المصلحة العامة، وهو ما يوجد حالة من التذمر وانخفاض كفاءة الأداء. انعدام، أو لنقل تأثر العدالة بالرؤية الشخصية للمسؤول عن مناقشة الوظائف، والمسؤولين الأعلى منه يسبب الحزازات ويرفع أشخاصا غير المستحقين. تدخل العنصر البشري في مثل هذه الأمور يضر الصالح العام، خصوصا أن المسؤول الذي يتخذ قرار تحديد الوظائف المطلوبة وأولويتها بالنسبة لجهته غير مطالب أصلاً بالإنجاز. ليست هناك قواعد منطقية تبني عليها الجهة طلبات الوظائف فيها سوى مخافة الله. فإذا فُقدت، ذهبت معها العدالة ودخلت المحسوبية والعلاقة الشخصية.

مؤخراً، ظهرت سلوكيات سلبية أخرى، أصبح يمكن أن تمنح الترقية لشخص غير كفء أوغير مؤهل لغرض إبعاده عن الوظيفة التي يشغلها، والأسباب معروفة. كما أصبح المسؤول يسأل عن أكبر المرشحين سناً ليمنحه الوظيفة بحكم أنه أقرب للتقاعد. هذا يفيد المتقاعد، ويعجل بشغور الوظيفة، لكنها ستُشْغَل مرة أخرى بالأكبر سناً، ويبقى الأكفاء في أسفل السلم الوظيفي.

أسباب كثيرة أدت لتجاوزات لم يكن المشرِّع يرغب بظهورها، أو أنه لم يتوقعها، كما أن وزارة الخدمة المدنية لم تعمل على تفادي هذه الإشكالات بحلول منطقية. يضطر القطاع لحل مشاكله ذاتياً. تعمل الوزارات والمؤسسات والهيئات العامة من أجل تحديد قواعد داخلية تبني عليها قرارات إحداث الوظائف والترشيح لشغلها.

تناسب حالة عدم التوازن هذه بيروقراطية متجذرة في وزارة الخدمة المدنية، من خلال إلزام كل الجهات بالرجوع إليها في التعيين والترقية والإحداث والتحوير. العقدة التي تمثلها هذه الوزارة بإجراءاتها الروتينية وتصنيفها الذي يحتوي على آلاف الوظائف، تجعل الجميع مضطرين للعودة للخدمة المدنية في كل شيء تقريباً. تكوين العلاقات الشخصية مع مسؤولي الخدمة المدنية، ومحاولة إرضائهم بكل الوسائل المتوفرة، أظهرا حالة جديدة من الفساد الإداري الذي أوجده النظام بحكم جموده وعدم تفاعله مع الواقع.

وقف أحد كبار المسؤولين في الخدمة المدنية أمام مؤتمر للموارد البشرية عقد في معهد الإدارة العامة قبل بضع سنين، وألقى محاضرة عن دور الخدمة المدنية في تطوير مهارات المواطن، والمزايا التي ينفرد بها نظام الخدمة المدنية. بعد المحاضرة، توجه الحاضرون بمجموعة من الأسئلة للمسؤول، كان من أهمها: لماذا لا تستفيد الخدمة المدنية من كادر المعلمين في تطوير كادر الخدمة المدنية، بحيث تتخلص الإدارات الحكومية من الحاجة المستمرة لإحداث وترقية وترفيع الوظائف؟ ولماذا يحاصر تصنيف يضم آلاف المسميات الوظيفية مسؤولي الخدمة المدنية ويعيق قدرتهم على ترقية المستحقين فعلاً بغض النظر عن المسمى؟ أجاب المسؤول بنبرة حادة. " لو كان لي من الأمر شيء لما صدر كادر المعلمين بشكله الحالي. هذا كادر عائم يفتقد للضوابط ويعطي امتيازات كبيرة للمعلمين. كان المسؤول يقصد أن الكادر لا يلزم وزارة التربية والتعليم بالعودة للخدمة المدنية بعد التعيين، لأن مسمياته واضحة والترقيات مبنية على عناصر موضوعية ليست شخصية.

أسوق هذه الحادثة بعد أن شاهدت تقريراً صحفياً عن مجموعة من المعلمين الذين توجهوا لوزارة الخدمة المدنية مطالبين باحتساب سنوات عملهم معلمين "كخبرة". التقرير احتوى نقطتين مهمتين، أولاهما الصعوبات التي واجهها المعلمون المتقدمون، حيث توجهوا لوزارة التربية والتعليم ورفض مدير عام الشؤون الإدارية والمالية أن يتولى موضوعهم، مؤكداً أن هذا الأمر بيد الخدمة المدنية. عندما توجه المعلمون وعددهم أربعون معلماً للوزارة رفض أمن الوزارة استقبالهم بحجة أن عددهم كبير وطلب ترشيح مجموعة منهم لمقابلة معالي الوزير. في النهاية، استقبلهم معالي الوزير برحابة صدر و وعد بتحقيق مطالبهم.

المعلمون أصحاب حق نظامي لا يختلف عليه اثنان في العالم. خدمتهم في سلك التعليم يجب أن تحتسب، لأنها خبرة في مجال الوظيفة، فلماذا يحرمون من هذا الحق؟ الحصول على المستوى والدرجة المستحقة حق آخر لا جدال فيه. اضطر هؤلاء المعلمون والمعلمات للعمل في المدارس الخاصة لسنوات برواتب متدنية وظروف عمل سيئة بسبب عدم إلزام الوزارة للمدارس الخاصة برواتب وظروف عمل تناسب الوضع الاقتصادي للبلد والمبالغ التي تحصلها المدارس من أولياء الأمور. فلماذا لا تحقق مطالبهم؟

تعداد السكان في المملكة يتضاعف بشكل هائل، وهذا يوجد الحاجة للمزيد من المعلمين والمعلمات باستمرار. لكنه ليس عذراً يمكن أن نسوقه لرفض حقوق الناس، كما أنه ليس من المعقول أن نطالب المعلم بأن يكون على مستوى عال من المسؤولية التربوية، ونحن نعيق حصوله على أبسط الحقوق. ثم أي نوع من المعلمين والمعلمات ستنتج هذه المماحكات والتعطيل والتسويف؟ وأي مفاهيم يمكن أن يغرسها معلم أو معلمة تعرضوا لمثل هذا الظلم في عقول الناشئة؟

هؤلاء هم صناع المستقبل، فأعطوهم كل حقوقهم ثم طالبوهم بمخرجات تسهم في نمو وتقدم الوطن.