كلما تعمقت أكثر داخل المؤسسة العربية في بعض البلدان التي تدعي الديموقراطية وترفع شعارات مختلفة، على اختلاف تمظهراتها، اكتشفت مدى التجذر والعنف والرسوخ لتحريم التفكير. هذا التحريم له درجات ومستويات تتفق مع أسلوب المؤسسة في لعبة الإخفاء والإظهار والوعيد والتهديد والرشوة والسجن والاستحواذ والنفي. أصبح التفكير محرما حين أصبح خطرا وجريمة ورعبا لا يمكن بأي حال التهاون مع انتشاره وفعله. تحريم التفكير بقدر ما يبدو جليا ظاهرا للعيان إلا أن هناك الكثير من فعالياته تبدو خفية ومستترة خلف الكثير من الشعارات والرايات. فإن كان تحريم التفكير الذي مارسته السلطة في التاريخ البشري أمرا جليا وواضحا للعيان إلا أن تحريم التفكير الذي مورس أيضا باسم الحرية والديموقراطية والاشتراكية أو باسم سلطة المعرفة يبدو خفيا ومستترا إلا حين يكشفه النقد. التجربة العربية أثبتت أن الشعارات لا تعني كثيرا، بل إنها قد استثمرت كثيرا لتمرير نقائضها.
حول التفكير قام الكثير من النزاعات والصراعات، ليس فقط من أجل الوقوف في وجهه والقضاء عليه، بل حتى من أجل الاستحواذ عليه، وهذا هو الوجه الآخر من اللعبة. الكل اليوم يقول إنه يدعو للتفكير ويحث عليه. بنود سياسات التعليم تقول ذلك والنصوص الدينية. لم يعد أحد اليوم يصرّح بعدائه للتفكير وموقفه الرافض له. لن يتقبل أحد هذه الدعوى. الحل يكمن في الاستحواذ على التفكير من أجل قتله. أي أن يتم رفع شعارالدعوة للتفكير ومن ثم تقييد هذا التفكير بالكثير من القيود التي تُنتج في المحصلة مسخا ليس له من التفكيرإلا الاسم، إنما هو مثال ونموذج على تعطيل الفكر وتوقفه. يكفي فقط هنا تأمـل الدراسات والبحوث التي تقدم للحصول على الشـهادات العلمية ومـدى الفقر والخـواء المتكرّس فيها رغم أنها تُنتج تحت شعار البحث العلمي والدراسات العلمية.
هذه سمة من سمات المؤسسة فهي بتراتبياتها وبنائها المغلق قادرة على التحوير والتبديل. قادرة بفضل أجهزتها أن تمارس اللعبة بقدركبير من الحرفية. اللعبة هنا هي لعبة الرموز والمعاني. بمعنى أنها تتبنى كل الرموز والمعاني التي تسود في عصرها ويدعمها الجو العام، السياسي العالمي، مثل الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان، تتبنى المؤسسة الرموز والمعاني لتلعب بها لعبتها مع أعدائها. تُزايد بها وتتقدم بها للجمهور. ولكنها في الفعل الحقيقي وفي الممارسة، تسخر من هذه الشعارات وترمي بها في الواجهة، أما في العمق فنجد أن المؤسسة الحديثة شكلا وتنظيما هي في الحقيقة استمرار وتجدد للمؤسسة القديمة التي ترسّخت وتجذرت مع مرورالزمن والمشكل الأكبرأن نقدا في كثير من ممارساته لا يطال سوى فروعها وأوراقا فيما تبقى الجذور بعيدة في ظلام الأرض عن نور النقد.
التفكير وحريته هما اليوم من أكثر الشعارات التي تتصارع عليها التيارات الفكرية المتنوعة في الساحة العربية، ومن المنتشر الآن أن تسمع أكثر التيارات الأصولية عداءً وحربا للتفكير والحرية ترفع هذا الشعار وتتهم أعداءها بأنهم يحرمونها من حرية التفكير!. والصراع الأيديولوجي صراع ماكر وله أكثر من وجه ومستوى. خصوصا في هذا العصر الذي يقوم على الانفتاح والتواصل مع الآخرين، فحتى أكثر التيارات رجعية وتخلفا تعي اليوم أهمية الآخرين والمجال المشترك ولذا فهي تهتم كثيرا بظهورها وتقنيتها الإعلامية. تنظيم القاعدة هنا مثال واضح على هذه الفكرة. الفضاء المعولم اليوم يؤدي إلى عولمة الكل ولكن ظاهريا. وهذا ما يجعل من مهمة الفهم والنقد والتحليل مهمة أعقد وأكثر إشكالا. من هنا فإن البحث في التفكير والعقل يفترض أن يتجاوز التصنيفات المسبقة ويتنبّه للعبة الشعارات وحيل المؤسسات فخلف كل هذه الحجب يكمن محل البحث ومجاله الأخصب.
العقل التسليمي والعقل الشكي هما سمتان متعلقتان بنظام الفكر، أي فكر. النظام الذي ينتج ويديرالأفكار والمقولات. بغض النظر عن محتوى تلك المقولات. فقد نكتشف أن خطابا ما ينتج ويتداول أفكاراً عن الحرية وحقوق الإنسان ولكن بعقل تسليمي أصولي. وربما نعثر على خطاب يتداول مقولات سلفية تراثية ولكن بعقل شكي تساؤلي. إن مهمتنا هنا هي محاولة التعرف على نمطين من التفكير، وبالتالي نمطين من العقل. والعقل هنا يعني فعالية ذات صيرورة لا جوهرا ثابتا متعاليا. إنه فعل التفكير والنظر المحكوم بآليات وطرق وأساليب لها سمة التكرار والثبات النسبي لا المطلق.
الثورات العربية اليوم تضع الجميع على المحك، بمعنى أنها تخرج كل التيارات من حيز التقية التي فرضتها حقبة الاستبداد إلى حيز الفعل والواقع المباشر. في الواقع الحر تنكشف الخطابات وتبدو لعبة الأقنعة والشعارات أكثر انكشافا للمراقب الذي يريد رصد روح الحرية في وسط كل هذه المعمعة. الساحة العربية اليوم في دول الثورات مليئة بخليط هائل من التيارات والتوجهات الفكرية التي تدخل ربما لأول مرة في تاريخها في تجربة مفتوحة من الصراع السياسي والاجتماعي. هذا الصراع، إن أتيحت له الفرصة في الاستمرار، سيكشف موقف هذه التيارات من الحرية ومن الإنسان. الفرضية المسبقة تقول إن هذه التيارات هي وليدة لحالة طويلة من الاستبداد وإن هذا الاستبداد قد خلق في داخلها نواة من العنف ولو بشكل مضاد. تقول هذه الفرضية إن أغلب التيارات الحالية هي مجرد وجوه متعددة لوجه واحد، وجه مشغول بالسلطة،لا بالحرية، أولا وأخيرا. اليوم، يمكن لنا اختبار هذه الفرضية من الواقع، وهو خير شاهد.