في حواره التلفزيوني مع أحد أقطاب التيار السلفي الصاعد في مصر، يقول جورج إسحاق لخصمه الانتخابي: أنتم حدثاء عهد بالسياسة. وفي مربع آخر على ذات شاشة – العربية – يجلس واحد من شباب المجلس التنفيذي لائتلاف الثورة، وهو يصرخ بدرجة صوت فيزيائية صاخبة طاعناً في شرعية فوز خصمه السلفي الآخر في دائرة بشرق القاهرة. هي بالضبط صدمة الدهشة أو وطأة اللا متوقع. السلفي المغمور، في جل الدوائر في الجولة الأولى من الانتخابات البرلمانية يهزم الذين ظنوا أن الفوز المضمون هو أبرز المكافآت الجاهزة التي سيهديها لهم شعب في صندوق اقتراع.
جورج إسحاق، هو مؤسس حركة – كفاية – التي كانت، ومنذ عام 2006، أبرز مؤشرات التغيير الجارف في الساحة المصرية. جورج إسحاق هو الوجه الإعلامي صاحب الحضور الطاغي الذي ذهب الأحد الماضي إلى دائرته الانتخابية في بورسعيد متوهماً أن المسافة إلى التتويج هي مجرد المسافة ما بين فتح الصندوق وغلقه فإذا به أمام المفاجأة المدوية أن – المغمور – وحديث العهد بالسياسة، مثلما هو توصيفه بالضبط، يكتسح الصندوق ويقول له، وبأصوات الناخبين: كفاية. وفي الجهة الأخرى يبرز تكتل ائتلاف شباب الثورة كأبرز الخاسرين ومن قلب مفاجأة الصندوق المغلق، يحصد شباب الثورة في المقاعد الفردية مقعدين فقط في الجولة الأولى، وللدهشة أو المفارقة، هما نفس العدد بالضبط الذي فازت به (فلول) الحزب الوطني وهي تحصد مقعدين في محافظة البحر الأحمر.
وإذا قلنا أو أعدنا كتابة قانون علم الاجتماع السياسي في أن (الذين يصنعون الثورات ليسوا بالضرورة هم من يكسب نتائجها)، فإن مجرد الوقوف على كلمات القانون العشر هو تبسيط مخل للمسألة.
الصندوق الانتخابي يبرهن على الدوام أنه لا يكافئ المناضل. المجتمعات دوماً تبرهن على أنها تدرك الفوارق ما بين ساحات التظاهر وبين القاعة البرلمانية. المجتمعات لا تأخذ – الحركي– أو صاحب الصوت الأقوى على محمل الجد في ساعة الجد. وهنا يبرز السؤال: لماذا كان الصوت السلفي يكتسح قادماً من المجهول ويحصد 20% من الأصوات رغم أن تمثيله النسبي في بنية المجتمع لا تتجاوز بالإحصاء 2%؟ لماذا سقط قطب كفاية، جورج إسحاق، في المقعد المضمون رغم إرثه النضالي الطويل ولماذا تمخضت – مليونيات – شباب الثورة، عن مجرد مقعدين من نتائج الفرز حتى هذه اللحظة؟
هل نحن إذاً أمام سلفي سيحكم مصر في غضون العقد القادم ولماذا؟ ذاك هو سؤال المذيع للروائي الضخم، يوسف القعيد في ذات الحلقة الساخنة. والجواب أنه لا جواب أمام التكتل الليبرالي المصري، والعربي في العموم، إلا سيناريو التخويف من المستقبل أو محاولاتهم تجهيل خيارات هذه الشعوب التي ذهبت بأصواتها للأحزاب الدينية. في مصر مثلاً تبلغ نسبة هذه الأحزاب 60% من خراج الصناديق. السبب الجوهري لأن الشعوب مع أول خيار مستقل ونزيه وحر ستذهب تلقائياً إلى الصوت المقموع وإلى الأحزاب المستعبدة المستبعدة طوال هذه العقود من الشراكة السياسية. هي تذهب لهذه الأحزاب لا لأنها تطرح برنامجاً انتخابياً متميزاً، بل لأن هذه الشعوب تريد أن تغامر في تجربة مختلفة. العقل الباطن لدى هذه الشعوب يقول لها إنها جربت من قبل سائر القوى – الليبرالية – التي تدثرت ثياب الأنظمة السابقة من قبل ومن سوء حظ الصوت الليبرالي أن الأنظمة السياسية – المتهاوية – في ثورات الربيع العربي كانت ترتدي ثوباً ليبرالياً ولهذا كان الالتباس في التلقي لدى هذه الشعوب وفي الخلط ما بين النظام البائد وبين الحركات الليبرالية. لم تشفع الحقيقة في أن الجسد الليبرالي هو من أسقط هذه الأنظمة والدلائل تشير في المقام الأول إلى حركات – كفاية – و -6 أبريل – بكل أدبياتها الليبرالية ومع هذا كانت على رأس مثلث الهزيمة المدوي مع أول امتحان لأصوات الشعب. وعلى عكس ما يقوله المفكر المصري – جمال أسعد، بالأمس من أن الإسلاميين يركبون الديموقراطية ثم يلغونها بالفوز مع أول منعطف فإنني لن أتفهم كل هذه – الردة – الليبرالية بعد أن احتكم الجميع إلى الصندوق في انتخابات حرة نزيهة. من حق الفائز أن يحكم طالما كانت هذه هي خيارات الشعب. خيارات الشعوب هي خراج صناديق الاقتراع لا القنوات الفضائية.