تصادف المرأة العاملة عقبات في حياتها العملية تدفعها أحيانا إلى اللجوء للعديد من الوسائل للسيطرة على المشكلة قبل استفحالها، وتبرز قضية "التحرش" بالمرأة العاملة كإحدى المشكلات التي تستدعي تكاتفا اجتماعيا للحد من تفشيها وتحولها إلى "ظاهرة" بسبب نزوات ضعاف النفوس خاصة داخل أروقة قطاع الأعمال من مؤسسات وشركات.

ويلجأ غالبية السيدات اللاتي يتعرضن للتحرش داخل أعمالهن في العادة إلى اختيار طريق واحد لا رجوع فيه، الرحيل وعدم العودة للعمل حفاظا على سمعتهن التي قد تشوه بسبب ضغوط المتحرشين، في الوقت الذي ينتظر الكثير قوانين أكثر حزما مع المتجاوزين الذين يتسببون أحيانا لقطع لقمة العيش لسيدة في غاية الحاجة للعمل.

مأساة منسقة حفلات

اعتبرت موظفة سابقة بفندق شهير في جدة الاستقالة حلا استراتيجيا لوقف كل محاولات ابتزازها داخل القطاع الذي كانت تعمل فيه، وقالت إن التجربة السيئة التي خاضتها كادت تكلفها ضريبة البقاء في المنزل، وأضافت "حصلت على وظيفة في فندق شهير كمنسقة حفلات، إلا أني تعرضت لابتزاز من زملائي الموظفين حيث يحاولون دوما الاقتراب والتودد لي بالعبارات وطلب الدخول في علاقات عاطفية، ورغم أن كل محاولاتهم باءت بالفشل، إلا أن نظرة صديقاتي إلي دفعتني للاستقالة، والبحث عن عمل آخر بعيد عن التحرشات التي كنت أواجهها".


شكوى تسبق الاستقالة

تشير "أم غازي" وكانت تعمل لدى مؤسسة كمندوبة إعلانات إلى أن طبيعة عملها أوقعتها في فخ المضايقات، من قبل الموظفين الذين كانوا يشاركونها مهام العمل، وقالت "عندما تقدمت بشكوى لمدير العمل اتهمني بالتقصير في أداء العمل ولم يلتفت لشكواي، وبعد مرور شهر بلغت بقرار فصلي، رغم معرفتي المسبقة أن قطاعا كهذا لا يجدي العمل فيه نظرا لبعض ضعاف النفوس الذين يحاولون الإصرار على الإضرار بالناس".

التحرش الوظيفي بالسيدات

يقول الاستشاري الأسري عضو مؤسس للهيئة العالمية للمرأة والطفل الدكتور خالد باحاذق إن التقرير الأخير الصادر من وزارة الداخلية ويكشف أن قضايا التحرش في المملكة التي وصلت للمحاكم قد تضاعفت أربع مرات يستدعي التحرك العاجل لمواجهة المشكلة والقضاء عليها من خلال سن قانون يحفظ حرية المرأة في ممارسة حياتها بعيدا عن التحرش.

وأضاف أن قضية التحرش الوظيفي بالسيدات تكون بطرق عدة إما عن طريق اللمس أو الألفاظ أو رسائل الجوال وكثير من الأشخاص يعتقدون أن المرأة تثار بأمور جنسية، والصحيح أن القضايا الجنسية بالنسبة للمرأة تكون نتيجة مشاعر لديها وإذا لم يكن لديها هذه المشاعر يعتبر الجنس جانبا وضيع لها، لافتا إلى أن هناك من يعتقد سهولة الوصول للمرأة بالتحرش، وهو ما واجهته الدول الغربية من خلال تخصيص أرقام هاتفية لاستقبال حالات التحرش بمختلف أشكاله وتتم معاقبة الأشخاص بعد التأكد من الوقائع.


التربية أساس الاستقامة

من جهته، أكد المستشار القانوني لهيئة حقوق الإنسان الدكتور عمر الخولي أن القوانين لا تصنع مجتمعا مثاليا مهما بذلنا من جهد لوضع قوانين صارمة ومشددة للقضاء على بعض التصرفات الإنسانية، إلا أنها ستعجز عن معالجة الوضع، مستشهدا بقوانين الولايات المتحدة الأميركية لقمع التحرش بالنساء وأثبتت فشلها، مضيفا أن التنشئة والتربية الإسلامية تصنع القوانين داخل النفس وهي الكفيلة بمنع التحرش.

ولفت إلى أن من الخطأ أن تتقدم الفتاة إلى هيئة حقوق الإنسان لتقديم شكوى نتيجة تعرضها لتحرش أثناء العمل لأنه ليس للهيئة أدوات تنفيذية تمتلك بها وضع قانون من القوانين، فهي مجرد متطلبات شكلية مما يدفع الفتاة إلى اللجوء للمحكمة الجزئية لإثبات هذه الواقعة وهنا يدخل التحرش في إطار التعزير، متمنيا إحداث قانون يمنع التحرش بالسيدات.

ماذا تفعل المرأة

وطالبت عضوة في المجلس التنفيذي بهيئة حقوق الإنسان الدكتورة سهيلة زين العابدين أن تؤخذ قضايا التحرش الوظيفي بالسيدات محمل الجد وتصديق المرأة في البلاغات التي تقدمها للجهات المختصة, مشيرة إلى أن هناك مبادرة من مجلس الشورى لمناقشة مشروع وضع عقوبات على المتحرشين بالنساء.

وأكدت العابدين أن إحداث قانون تنظيمي لوقف مشكلات العاملات قد يحد كثيرا من التحرش الذي يتعرضن له، وقد يفضي أحيانا إلى الاستقالة خوفا من أن تمس السمعة، مشيرة إلى أن قضية التحرش الوظيفي هي ثقافة مجتمع تتمثل في نظرة الرجل للمرأة، ونظرة البعض المهينة لصورة المرأة داخل المجتمع، واعتبرت العامل المساعد لانتشار ظاهرة التحرش بالسيدات داخل وظائفهن عدم تصديقهن لأن الرجل المتحرش يكون على علم أن المرأة حين تقدم شكوى لا يؤخذ كلامها بمأخذ الجد مما يجعل الرجل المتحرش يتمادى في تحرشه.





الحالة النفسية للمرأة

إلى ذلك، اعتبر أستاذ مساعد الصحة النفسية بقسم علم النفس في كلية العلوم الاجتماعية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الدكتور سعد المشوح التحرش بالمرأة يؤثر عليها من الناحية النفسية داخل العمل، ويولد ضغطا وعدم تكيف لديها وداخل أسرتها, إذ تكون في حالة عدم القبول بالذات ولا تقبل الأشخاص الذين حولها وهو ما يضعف المساندة الاجتماعية والإنجاز والرضا الوظيفي ويؤدي ذلك للانطواء وحدوث مشكلات نفسية تجعل المرأة تعاني منها لفترات طويلة.

وطالب المشوح بتفعيل دور الإرشاد المهني في المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص بمعنى أن يكون هناك مرشد ومرشدة في كافة القطاعات بحيث يهتم في عملية الاختيار وإيجاد حلول للمشكلات وتوعية المجتمع لأن السكوت على التحرشات قد يؤدي لمشكلات لاحقة لا تحمد عواقبها.


السكوت يزيد من التحرش

ووصفت المشرفة على الفرع النسوي بهيئة حقوق الإنسان بمنطقة مكة المكرمة الدكتورة فتحية القرشي التحرش بأنه من ممارسات العنف الذي تعاقب عليه القوانين، وأنه بالرغم من ذلك نجده يمارس باتجاه المرأة في الأماكن العامة والأسواق وحتى في الطرقات، وهو يتنافى مع تعاليم الدين وآداب السلوك، كما يعتبر من السلوكيات المستهجنة في جميع المجتمعات والثقافات.

وأضافت القرشي سكوت المتعرضة للتحرش وتجاهلها له يسهم بصفة كبيرة في انتشار ممارساته، فهناك نساء يفتقدن لتقدير الذات ويعاملن بقسوة في المحيط الأسري مما يجعل سلوكيات التحرش في نظرهن إطراء وليس اعتداء، ولذلك لا تستنكره مما يجعله يتطور إلى مضايقات واستفزاز وانتهاك لحقوقها في العمل والاستقلال والأمن النفسي والاجتماعي والاقتصادي.

وأضافت أن استمرار سلوكيات التحرش يساهم في توجيه اللوم للنساء، وأن التحرش بالنساء أثناء العمل من الضغوط التي يواجهها بعض النساء من رجال في قلوبهم مرض.


مدونات الأسرة السعودية

وبينت الناشطة الاجتماعية والحقوقية الدكتورة أميرة كشغري أهمية حاجة المجتمع إلى مدونة للأسرة السعودية، بسبب الممارسات غير العادلة تجاه الطرف الأضعف "المرأة والطفل"، والتي تتضمن حالات التحرش الجنسي في العمل، داعية إلى ضرورة وضع مدونة للوضع الحقوقي للأسرة في إطار من العدل والمساواة المستقاة من روح الشريعة الإسلامية السمحة، مبينة أن مدونة الأسرة هي نص قانوني ملزم تلتزم به المحاكم في الدوائر الحكومية يتم تدوينه من أجل تنظيم علاقة الأسرة وفق مبادئ الشريعة الإسلامية.


الشورى والتحرش الوظيفي

في المقابل كشف رئيس لجنة الشؤون الاجتماعية والأسرة والشباب بمجلس الشورى الدكتور طلال بكري أن مجلس الشورى يدرس حالياً موضوع التحرش الجنسي وحفظ حقوق النساء في بيئة العمل، مضيفا أن المشروع ما زال تحت الدراسة ويعتبر كنظام للحماية من التحرش الجنسي في بيئة العمل.


الخلل في منظومة القيم

عميد كلية المجتمع بجامعة أم القرى الدكتور محمد مسفر القرني أفاد بأن المشكلة مردها الأساسي هو الخلل في منظومة القيم لدى الأفراد، وفي مدى تطبيق القيم الاجتماعية والأخلاقية، مضيفا "أعتقد أن لدينا خللا مابين إدراكنا لهذه القيم وما بين تطبيقنا لها في علاقاتنا الاجتماعية، أما بالنسبة لآليات علاج هذه الحالات، فالمسألة يجب أن تتداخل بها أكثر من جهة، والأسرة هي المحضن الأول وكلما كانت التنشئة الاجتماعية قائمة على قيم ثابتة وراسخة وبها تطبيق عملي من الأبوين، فيفتح الطفل عينيه على أبويه وهما يطبقان هذه القيم، فممالا شك فيه عندما يكبر ويشب عن الطوق ويدخل في علاقات اجتماعية مع الآخرين أن تكون هذه القيم نصب عينيه".