ربما لو سأل أحدنا: ما هو أهم شيء قدمته المملكة للعالم منذ أن ظهرت كقوة اقتصادية؟ سيكون الجواب على لسان الأكثرية، أن أهم شيء هو المساعدات الإنسانية التي ساعدت ملايين البشر على تجاوز حالة الفقر والحرمان، وهذا صحيح، لكن هناك ما هو أهم من المال، وأكثر بقاء منه، هو اللغة، فقد تعلم ملايين البشر الذين قدموا إلى المملكة ودول الخليج العربي شيئا من العربية، بعضهم أتقنها، وبعضهم استطاع التحدث بها، أما الخاسرون فهم الذين أداروا للعربية ظهورهم لها، ولم يحالفهم الحظ في النهل من عبقريتها.

في مقال سابق قلت، إن أعظم شعراء العالم وأكثرهم عبقرية لو قرؤوا القرآن الكريم بلغته العربية لما أمكنهم إلا أن يؤمنوا به، فالقرآن بترجماته العديدة إلى اللغات الأخرى، يفقد الكثير من جوهره الممتنع عن التصنيف، حتى رأى طه حسين أن العرب لديهم شعر وأدب وقرآن، الشيء الذي سماه المفكر العراقي علي الوردي فيما بعد بالمطلق اللغوي العصي عن المضاهاة لكونه صادرا عن ذات عليا.

ربما من هنا، أي من هذا المطلق اللغوي جاءت دهشة شاعر ألمانيا العظيم "جوته" أمام الآيات القرآنية حين تمكن من تعلم شيء من العربية، وأدى ذلك إلى إسلامه وتأليف كتابه "المؤلف الشرقي للشاعر الغربي" و"تراجيديا محمد" ومطولات قصائد في مدح الرسول عليه السلام وآل البيت.

اللغة هي الإنسان، ولم يفت هذا شاعرا مثل محمود درويش حين قال "أنا لغتي، ولغتي أنا" فاللغة ليست مجرد أداة للتواصل الإنساني بل هي مكون أساسي من شخصية الإنسان وهويته، لذلك حين طرح المفكر الفرنسي رولان بارت فرضية النزعة الهمجية التي لو احتلت فرنسا وخيرتنا أنها ستزيل كل شيء من فرنسا باستثناء شيء واحد نختاره، لاخترت الأدب من دون تردد، لأن كل شيء موجود في الأدب، وهناك مثال إنجليزي على ذلك حين طرح أحدهم سؤالا "ما الذي يبقى من الجزر البريطانية لو غرقت في مياه البحر؟، كان الجواب بكل بساطة هو "شكسبير".

مر الملايين من البشر غير العرب من هذا المكان، وكان يمكن لو كنا على وعي كاف بأهمية تعليمهم اللغة العربية، لو أمكنا سن قوانين تلزم الحديث بالعربية، لو وضعنا برامج تساعد على تعليم العربية، لكانت مكاسبنا أكثر بكثير من الأموال التي أنفقت على المساعدات المادية على الرغم من أهميتها، وهذا ليس موضع مقارنة بين جانبين مما قدمته المملكة للعالم، ومع ذلك غادر الملايين هذه البلاد وهم قادرون على قراءة القرآن بلغته، هل ثمة ما هو أهم من ذلك؟