(طحنت خلال الدراسة شيئاً من أيامي بمدرسة تفصل بين أدوارها أبواب حديدية بأقفال ضخمة تشبه تلك التي تغلق فيها السجون.. خارجاً ، كان السور الفارع يُغرس بأعلاه زجاج مبشور وسلك شائك تطوق فيه المدرسة للحد من هروب الطلاب خارج هذه "الجنّة" ومع هذا كنا نهرب، محملين بما يجعلنا نشعر بأننا كائنات لاحلّ معها إلا بالحجر ولافائدة ترجى منها إلا بالخنق وهذا أحد أشكال الثقافة التي رضعناها بذمة وضمير. تلك التي تحدّ منك، تشك بك وبأنك بشكلٍ ما تشكّل خطراً داهماً إن قلت بصوت حاد: لا.
حين كبرنا كانت: الشوارع، تفاصيل المدينة المليئة بالأسوار، الجدران الشاهقة، الأسمنت الداكن، والكثير من الحذر.. المنازل التي نسكنها كلها أبواب، ولكي نصل لغرفة ما علينا أن نعبر متاهات من الممرات الضيقة، الشوارع التي نتخطاها يومياً متخمة بالأسوار والسواتر، الكثير خائفون من أن يراهم أحد، أن يفتضح جارهم أمرهم، متوجسون من أن الآخر سيستيقظ صباحاً وهو يقول: "حسناً عليّ أن أغسل وجهي ثم أشاهد ماالذي يفعله الجيران الذين يخبئون أنفسهم عني". هم لا يدسون شيئاً لكنها ذهنية "الوسوسة"، المتفاقمة التي حقنت بنا منذ الصغر، بأن هؤلاء البشر الذين يشاركوننا ذات العالم لا يفهمون، مختلفون عنّا، بأن حياتهم مجرد خسارة كبيرة، لأنهم ارتضوا أن يعيشوا خارج الصناديق الخرسانية، وقرروا بعد سنوات من الوعي ألا يتدخلوا بشؤون غيرهم، وأن يكف الكبار عن تعليم الصغار أدق تفاصيل حياتهم وترتيب مستقبلهم ثم إرغامهم على ارتدائه من منطلق الطاعة ومعرفة الأصلح. مساكين كل الآخرين، كلهم.. حين لا يعلمون أننا وصلنا لمرحلة تضمن لنا الجودة الفائقة)
وجدت هذه القصاصة ملقاة في مكان كنا نقضي فيه نزهة برية، حمدنا الله عمّا نحن فيه، قال أحدنا: ربما كان مصدوماً من أثر الحضارة الغربية، ثم ضحكنا.