للحالة السائدة في الوسط العربي تأثيرها البالغ على مجمل التناولات والآراء، وربما كان ذلك مقبولاً عند توصيف الأحداث في سياقها الزمني غير أنها تنثال مشفوعة بخلفياتها التاريخية وتحملنا على اجترار جذورها مما يؤدي إلى خلق انطباع شعبي ممتعض إزاء معظم التناولات النقدية، وكما لو كانت معبرة عن شخوص ينتابهم مزاج مكتئب وميول سوداء.

والحال أن مساحة الجوانب السلبية في حركة الواقع العربي المضطرب تفرض نفسها بشكل طاغ.. بيد أن حيواتنا المعاصرة لا تخلو من إضاءات مشرقة ونماذج تحمل على السلو وتقتضي الأوضاع الراهنة إبرازها والتذكير بإمكانية الإفادة من نتائجها الإيجابية..

قبل أربعة عقود تزيد قليلاً أو تنقص كان على أحضان البحر العربي أطلال دولة مهددة بالانقراض، يعيش معظم سكانها على الاصطياد وإنتاج البخور، يحاصرهم شظف العيش وتفتك بهم الأمراض الوبائية المعدية ويضطر الكثير منهم للهجرة طلباً للرزق.. ولم يك عامل الشيوخة الذي أصاب متخذ القرار أقل فداحة من قسوة الطبيعة لكأنهما يعملان معاً بمقتضى توافقات غير معلنة تمعن في إيذاء مجتمع رعوي ممنوع من اقتناء الراديو أو إقامة الأفراح، ممنوع من استخدام المصابيح الكهربائية ومن التعليم، ولا ينفك الحاكم الكهل يغلق عاصمة دولته المتداعية بنفسه مع كل مغيب ويحل وثاقها عند كل صباح، أما الطبيعة فتفرض ظواهرها الاستثنائية على نحو يجعل صراع الإنسان مع الثعابين أمراً ذائع الشهرة..

وفي المنتصف من هذه التوافقات يتولى الجنود البريطانيون ومبعوثو شاه إيران حماية الحاكم وإخماد (التمردات الداخلية) نيابة عنه..

على مثل هذه الأرضية بدأت إرادة التغيير الممنهج تتحسس طريقها في مواجهة تحديات الداخل وسط تفاعلات إقليمية تنشب قريباً من حدودها..

الإعصار اليساري لما عرف يوماً بجمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية كان يبعث رسائله الحادة لتصدير ثقافة البلورتاريا التقدمية وإسناد المسلحين من منتسبي الجبهة الشعبية بالشعارات الملتهبة وأناشيد مرسال خليفة والكثير الكثير من العتاد العسكري..

الحق والحق يقال إن سلطنة عمان اجتازت امتحان المصداقية والإرادة معاً وأعطت من الدروس ما يستحق الاحتذاء..فعلى أي رافعة خاض سلطانها قابوس بن سعيد تجربته في الحكم؟ وما الذي حال دون تهجي بعض الأشقاء مفرداتها؟ ألم يكن هذا ممكناً لذي بصيرة إن هو أراد؟.

لم يعد في ظفار متسع لشعار وافد أو سلعة ترتل معزوفات الموت.

هدأت بؤرة البركان العماني وعاودت نسائم السلام ترف – بعبق الانفتاح وعمق الخصوصية الإقليمية – فوق الجبل الأخضر وبات من غير اللائق سماع المواعظ المغرمة بتمجيد أسطورة العوز الاشتراكي، كما لم يعد أحد يكترث بالأسجاع القادمة مع عوالم المساواة في طلب الرغيف عبر الطابور، إذ صار لدى الناس في شيرُوس القريبة من رخيوت بإطلالتها على شعبوت لون جديد من حياة لم تكن مألوفة من قبل.. إقبال غير مسبوق على التعليم، وازدهار في التنمية بمجالاتها العديدة، ومظاهر رخاء، ومعابر محدودة تعمل على تهريب فائض الوفرة السلعية إلى التخوم المجاورة..

هي هجمة مرتدة تحكي تبدلات ظروف وتحول إرادات، ذلك أن السياسة في البلدان النامية تشبه طوابع التحذير الصادرة عن منظمة الصحة العالمية.. لصيقة علب التبغ لكنها تسهم في رفع شراهة المدخنين لا أكثر.

لا يكفي أن تقول لسكان المهرة وسقطري "مبارك وحدة اليمن"، لأن هذا في الحقيقة لا يعادل شيئاً مقابل تطلعاتهم الموؤودة بيومها الأغر، ولا يردم الفجوة المتسعة بين وضعهم في وهدة الظلام الدامس مقارنة بالتوهج المنبعث من مناطق الجوار العماني والفرجة على هذا النحو يستتبعها ندب أمل كان..!

أتحدث عن التجربة العمانية في كنف قابوس بن سعيد بدافع الحث على استلهام أسباب نجاحها في غير مكان من بلداننا العربية الغارقة في تسويق الشعارات والمجبولة على الاستغراق في صناعة الوهم ومواجهة الآثار المترتبة عليه، على غرار ما حدث ويحدث اليوم في دول عربية دهمتها مزاعم الفرادة والتفرد وفجأة إذا بها أمام أقدار يعجز الحاكم عن وضعها تحت السيطرة مثلما كان يقول!

التجارب الموسومة بالتفوق لا تعتمد المال ولا القوة ولا تؤتي قدرتها على الثبات بفعل تحالفاتها الخارجية أو معتقداتها الفلسفية والدينية..لكنها تعزو النجاح لعاملين اثنين رئيسيين: الإرادة والمصداقية..

لم يأخذ خيار الحوار السياسي بين قابوس عمان ومعارضيه في الجبهة الشعبية وقتاً طويلاً..غابت التفاصيل وتصدر امتحان المصداقية قائمة الأولويات الوطنية..بناء جسور الثقة فريضة واجبة الأداء وما عدا ذلك موضوع شراكة عادلة بين مختلف الأكفاء وبطليعتهم أولئك الذين رفعوا السلاح ذات يوم.. وما دام الهدف نبيلاً والغاية بناء وطن يتسع كل أبنائه فلا مجال لارتهان البلاد على طاولة التسويات ولا ربط الكفاءة بموازين الصراع اللذين جرى استبدالهما بمنطق ومستوى الإنجاز..لهذا انصرف المجتمع إلى خدمة الوطن عوضاً عن صراع السلطة، وانشغل الساسة بوظائف الدولة بدلاً عن تقاسم النفوذ وتنازع المصالح والأضواء..

لم تكن معادلة بمثل هذا النمط من السلاسة واليسر تتطلب من بعض القادة العرب بروتوكولات تعاون مع سلطنة عمان، ولا اتفاقات باهظة الثمن مع الغرب لو توافرت نفس الإرادة وتغلبت مصداقية الحاكم على متعة التغرير بالبسطاء ولولا أن صناديق الاقتراع تحولت إلى ما يشبه الصندوق الأسود في كل مغامرة انتخابية بائسة ما خرجت الأوضاع عن نطاقها الاعتيادي القابل للإصلاح دون ولادات متعسرة..