في هذه الأيام العصيبة التي تمر بها الشام لا أستطيع سوى أن أتذكر أحلى أيام طفولة عشتها بين حدائقها وغوطتها، بين أسوارها وشوارعها التي تحكي قصصا من تاريخنا العربي الأصيل، ورغم أنني زرت أكبر وأشهر ملاهي أميركا، إلا أنني لم أشعر يوما بالسعادة كالتي كنت أشعر بها وأنا أتطوح يمنة ويسرة على المراجيح والقلابات الخشبية، أردد مع الأطفال بكل ما أوتيت من قوة صوت أغاني العيد: "يا ولاد محارب يو يو شدوا القوارب، وقويها بنجدد ما بننزل إلا بأتله".. أو حين كنا نتسابق كي نأخذ الدور خلف صندوق الحكواتي الذي كان يدير الصور بداخله وهو يحكي لنا قصة عنترة أو أبو زيد الهلالي، فنتبخر لننطلق خيالا يدور في أروقة أساطير اختبأت بين نبرات صوته التي كانت تصاحبها نغمات يصدرها الصندوق مع كل منظر جديد يظهر في الداخل، تحولنا إلى أبطال وفرسان من ألف ليلة وليلة، أما صراخنا ونحن نلملم السكاكر التي كان ينثرها علينا الأراجوز في نهاية وصلته كانت حكاية ورواية بحد ذاتها، فلقد كنا نتسابق لنرى من سيجمع قطعا أكثر، فنقع على رُكبنا وأيدينا وتتسخ، وأحيانا كثيرة تتمزق ملابس العيد، ولكن كل ذلك لم يكن يهمنا بل على العكس كان يشعرنا بالحيوية والانتعاش وربما بعض التحدي لما سيفعله أهالينا حين عودتنا في المساء.. لم نكن نفكر بالجراثيم وعواقبها، لم نكن نخاف الغرباء أو يشغلنا الخطف أو الإرهاب، كنا نتنقل بين الباعة المتجولين لنشتري الفول النابت والذرة والناعم وغزل البنات والجلاب وعصير التوت الشامي.. طيبات ألذ مما يقدم في أفخم مطاعم الدنيا، ما زال طعمها على رأس لساني يدفعني كي لا أنسى، وكيف أنسى ما صنع بأيدي أناس طيبين كانوا يقدمون لنا التاريخ بثوب مزين بالتراث، يغزلون الحكاوي بالابتسامات فيزرعون في الطفولة كروما من الذكريات يهب نسيمها كلما أغمضـنا الأعين وأبحـرنا إلى زمن عبر وفات.

وكم تمنيت أن أقابل جدي، والد أمي، ذلك الجبل الشامخ الذي كان يظلل أرضه كما يظلل قاسيون دمشق؛ يزرع ويحرث ومن بردى يسقيها، فحينما كان يصادف أن نقضي الإجازة بين أحضان الجدة والخالات والأخوال، كنا نرافق أهلنا لنزور قبره فجر العيد لوضع عرق من الزرع الأخضر وقراءة الفاتحة، ومن ثم تبدأ شعائر العيد من زيارات الأهل وتجميع العيديات والانطلاق بعدها إلى الساحات لصرفها على كل ما لذ وطاب، واجتياح الألعاب الفلكلورية التي كانت تزين الأزقة والحارات، وصدف أن قضيت هذه السنة عيد الأضحى هناك، بعد انقطاع دهر إن لم يكن أكثر، حيث قمت بمرافقة والدتي لزيارة والديها، طبعا وأنا أتذمر: كيف نبدأ عيدنا بالقبور يا أمي؟! ولكنها تعتبره وفاء لهم وراحة لها، خاصة وهي تضع عرقا من "الآس" الأخضر وتقرأ الفاتحة، ثم تقوم بتوزيع ما تيسر من الصدقات هناك على أرواحهم.. مكان غريب مزدحم لم يكن أبدا كما حفرته من ذكريات الطفولة، ولكن ماذا كنت أتوقع؟ أن يخلد كل من كان حولي في الطفولة؟! بحثت عن اسم خالي الذي توفي مؤخرا، ولم أجده، حيث توقعت على الشاهد الذي كان فوق قبر جدي، فدلوني على قبر آخر منزو في ركن مظلم، هناك قرأت اسمه تحت اسم .."عارف"، ومن يكون عارف هذا؟ قيل لي إنه عم والدتي، الشهيد الذي قتله الفرنساوي أيام الاحتلال.. كم سمعت عنه من جدتي ولكنها لم تذكر أبدا اسمه، "الشهيد البطل" هذا ما كانت تطلق عليه كلما جاء ذكره وهي تحدثنا عن بطولات أهل الشام، وبنفس الوقت تحدثنا عن الخونة الذين فكوا البغال التي كانت تجر عربة الجنرال غورو وقاموا بجر العربة بأنفسهم تعبيرا عن شكرهم وتقديرهم له، فلقد هزم من كان يقف بوجه التقدم والحرية، من كان سيقف عقبة بينهم وبين التقدم والازدهار وكل ما كان يعدهم به الفرنساوي، هزم القائد العظيم "يوسف العظمة" الذي ذهب إلى المعركة وهو يعلم بأنه خاسر، ولكنه وقف وقفة عز وكرامة بوجه الغازي، نعم حكايتها كانت الشرارة التي أشعلت بداخلي الفضول كي أزيل الغبار عن تاريخنا وأداوم البحث والتعمق، وهي من علمنا عن الأرض والعرض والعزة والكرامة، زوجة تاجر، تخلى عن مهنته لأجل أرض عشقها فأعطاها وأعطته، امرأة لا تعرف كيف تفك الخط، علمتنا أهم أبجدياته.. مفاهيم وقيم لم ولن نجدها في أعرق جامعات العالم.. قد تكون بالنسبة لمن لم يعشها شعارات وخطبا، لكنها بالنسبة لي تاريخ خرج من رحم أمة عربية، نقطة على سطر ما، هي.. أنا.

وكلما أسمع كلمات "رجال العز" يتحرك شيء بداخلي، في دمي.. ويتفاعل معها بكل ذرة من كياني ووجداني.. ربما كانت دماء أجدادي تذكرني بألا أنسى وقفة العز أمام كل محتل غاز، وكل من تحت مخلبه يحتمي، وباسمه يحكم ويقاضي.. أو ربما كان الحنين لزمن الرجال فيه كانوا لا يعرفون غير وقفة عز! اللهم أعن أهلنا وإخوتنا في الشام وارفع عنهم الغمة، أنت أعلم بحالهم وأنت العادل الرحمن الرحيم.