بعد سقوط النظام الدكتاتوري السابق في العراق ومجيء الحكم "الديموقراطي" الجديد، لم يجد المجرمون والعصابات الدولية المنظمة مكانا مثاليا أكثر من العراق، ليمارسوا فيه أعمالهم الإجرامية، ففيه كل المواصفات المحفزة لازدهار ونمو تجارتهم المشبوهة، من انعدام النظام والقانون وانتشار الفساد الإداري والسياسي والتسيب والسرقة، إضافة إلى سياسة المحاصصة والتكتلات الطائفية والعرقية المتبعة وضعف أداء القوات الأمنية، ومواصفات أخرى جعلت من العراق مرتعا خصبا لهؤلاء المنحرفين الذين تقاطروا إلى العراق من كل حدب وصوب، وشكلوا مع مجرمي الداخل وهم كثر وأكثر من الهم على القلب، شبكة "مافيا" قوية، استطاعت خلال فترة وجيزة من الحكم الحالي أن تتسلل إلى معظم منافذ الدولة الأساسية وتمتد أذرعها الطويلة إلى معظم مرافق الدولة الأساسية وبخاصة الوزارات الأمنية؛ الداخلية والدفاع والأمن ومؤسسات الشرطة والأمن العام، ولها أنصار ومؤيدون داخل المليشيات المسلحة والأحزاب المتنفذة.

ولم تكتف بذلك بل نجحت في أن تشتري وزارات سيادية "بكامل عددها وعدتها" من إحدى الكتل الكبيرة بمبلغ ضخم من المال (باعتبار أن الوزارة السيادية المعنية كانت من حصة إحدى الكتل الرئيسة ومن حقها أن تبيع"حصتها" كما تشاء) لقاء احتكارها للعقود التجارية في الوزارة، وهذا ليس ادعاء يطلق على عواهنه لتلطيخ سمعة الكتلة السياسية المعنية أو لتشويه صورة الحكومة العراقية "المشوهة أصلا"، بل هو تصريح "صوت وصورة" أدلى به أحد أقطاب السياسة البارزين في الحكومة السابقة في مقابلة تلفزيونية.

وإذا كانت منظمات "المافيا" الإرهابية في العراق تقوم بعمليات تجارية تقليدية مشبوهة مثل خطف الناس وقتلهم مقابل المال أو شراء ذمم الموظفين الحكوميين الكبار أو إمداد الإرهاب الدولي في الداخل بالسلاح والعتاد لزعزعة الأوضاع الأمنية وكذلك سرقة السيارات ثم بيعها من أجل تمويل العمليات الإرهابية؛ فإنها استطاعت أن تطور من تجارتها لتشمل "بيع الأطفال" أيضا!

التجارة الجديدة التي أثارتها وسائل الإعلام العالمية تفوق في بشاعتها وفداحتها الأنواع الأخرى، لأنها تمس كائنا بريئا، لم يخض بعد غمار الحياة المعقدة، يتعامل مع الواقع بمنتهى الصدق والبراءة، بعيدا عن الغش والخداع، وهم الأطفال. والطفل بحسب وثيقة حقوق الطفل الدولية هو من لا يتجاوز عمره الثامنة عشرة عاما بينما ربط الإسلام سن الطفولة بـ"البلوغ" وقد أخذت القوانين والشرائع الدولية هذه الفترة الزمنية من عمر الأطفال بعين الاعتبار، فاهتمت بها اهتماما بالغا وأفردت لها قوانين خاصة تلائم المرحلة العمرية الحرجة، وبخاصة الدول الغربية المتقدمة التي أولت اهتماما كبيرا بهذه الشريحة الأساسية في المجتمع، فشرعت قوانين وتشريعات خاصة ترعى مصالحهم وتهتم بأمورهم، فالأولوية في المكاسب والامتيازات دائما لصالح الأطفال، باعتبارهم رجال الدولة، الذين تقع عليهم أعباء مسؤولية المحافظة على البلاد في المستقبل.

أما في العراق، فإن الأطفال يعيشون على هامش الحياة، محرومون من أبسط مستلزمات حياة الطفولة الطبيعية، يعاملون بمنتهى القسوة ويخضعون لأبشع أنواع القمع والتعسف.. ولكونهم أضعف الحلقات في المجتمع فإنهم معرضون دائما للمساومات والخطف والبيع والقتل في أكثر الأحيان.. وقد كشفت وزارة حقوق الإنسان العراقية هذا العام 2011 أن أكثر من (6) آلاف حالة اختطاف للأطفال سجلت في العراق منذ 2003 مبينة أن نصف الأطفال المختطفين تعرضوا للقتل. كان من الممكن أن تمر قضية بيع الأطفال والمتاجرة بهم كقضايا أخرى كثيرة مرور الكرام وتختفي آثارها لولا جهود وسائل الإعلام الغربية التي استطاعت أن تهيج الرأي العام العالمي حول القضية التي تمس جوهر الإنسان وكرامته، وتتعلق بأطفال العالم وليس فقط أطفال العراق، هذه الوسائل الحرة بمجرد أن شمت الخبر بعثت بمراسليها إلى بغداد وكشفت عن الفضيحة التي حاولت السلطات العراقية كعادتها التستر عليها وتفنيدها جملة وتفصيلا واعتبارها "هجمة إعلامية لتشويه وضع العراق".

فإذا كانت وكالة "إكسبريس" السويدية ذكرت على لسان مراسلتها "تريس كريستين" التي زارت بغداد متخفية وأعدت تقريرا مفصلا من ست صفحات حول موضوع بيع الأطفال في العراق قد أكدت أنه توجد في العراق أسواق نخاسة لبيع الرضع والأطفال بأسعار رخيصة؛ فإن صحيفة الـ"غارديان" البريطانية كشفت جانبا آخر من الفضيحة، حيث أشارت إلى وجود 12 عصابة منظمة تقوم ببيع الأطفال وتدفع مقابل كل طفل مبلغاً ما بين(200 ـ 4000) جنيه إسترليني، وذكرت على لسان أحد الضباط في وزارة الداخلية العراقية أنه يتم بيع (15) طفلا عراقيا على الأقل في الشهر.. وما أن تنتهي عملية البيع حتى يتم شحن الأطفال وتسفيرهم إلى خارج العراق بكل أريحية، وما أسهل ذلك، فـ"تهريب الأطفال في العراق هو أسهل وأرخص من أي مكان آخر بسبب استعداد موظفي الحكومة للمساعدة على تزوير الوثائق مقابل المال بسبب قلة رواتبهم".. وهذه الشهادة الدامغة مهما أنكرتها الحكومة "الديمقراطية" وادعت أنها دعايات مغرضة تستهدف المصلحة الوطنية؛ تبقى دليلا دامغا يدين القائمين عليها قبل أن يدين تجار المافيات المنظمة.