(هيجت ذكراك حبي واستبدَ بي الأنين). مطلع لقصيدة شجية لا أعرف كاتبها، لكن نعرف جيدا أن الموسيقي (عبدالله محمد 1930 - 1993) هو من أبدعها لحنا غنائيا، فظلت عصية على النسيان، شامخة في تاريخنا الغنائي، مثلها مثل ألحان أخرى شهيرة له لا يمكن أن تمحى من ذاكرة الأغنية المحلية مثل (سويعات الأصيل)، (لنا الله) (ايه ذنبي يا أسمر).

الأسبوع الماضي حضر عبدالله محمد بطلته المميزة، أعاده للمشهد فرع جمعية الثقافة والفنون بجدة، في بادرة خلاقة لطالما نادى بها الغيورون، كي يبقى الرواد نابضين بعطائهم في حياتنا، ذلك أن الإبداع الفني في أصله تراكم وذاكرة متقدة، يتهدم، كلما تقاصت الأجيال ونأت عن بعضها.

عبدالله محمد كان يعبر عن ملامح ظرف فني وسياق تاريخي ميزته سمة تداخل العلاقات بين الوسط الإبداعي باختلاف مناحيه، لذلك كان بارعا في موسيقاه، خاصة ما يتعلق بتلحين القصيدة. واليوم عندما تبدأ باسمه الجمعية في لم لحمة المبدعين بأطيافهم كافة، فإنما هي تستعيد ما كان سائدا، بل ما هو مفترض أن يكون طبيعيا وواقعا في أيما وسط إبداعي تتكرس فيه شروط الفن والإبداع الحقيقية، منذ أن انطلق أرسطو إلى "وحدة الأنواع الفنية" فاعتبر الرسم والنحت والموسيقى والرقص أشكالا شعرية. الدراسات الجمالية تتفق على وجود جوهر فني واحد، في مختلف الفنون القولية والبصرية والسمعية، واعتبار كل منها "كائنا" ينتمي إلى "مملكة الفن الواسعة" كما عبر هيجل.

تتقارب الفنون وتتواشج في علاقات متعددة، مؤكدة أن جوهر الفن العميق واحد، فالكتابة تنزع إلى أن تكون تصويرا، والتصوير ينزع إلى الموسيقى، والموسيقى تنزع إلى الدراما. الشعر امتزج بالموسيقى في علاقة لافتة عبر كل العصور، في الكتابة السردية دفع تأثير فاجنر العميق في مارسيل بروست أن تتبع في روايته الشهيرة "بحثا عن الزمن المفقود" أسلوب اللحن المميز Leitmotiv " فكرة ملحة". أما علاقة الموسيقى بالعمارة فتبدو واضحة في موسيقى باخ، ذات البنيان المتماسك المشيد بدقة وإحكام طابقا فوق طابق، بحسب شريف رزق الذي يؤكد علاقة الموسيقى بالتصوير في وصف نيتشه لفاجنر بأنه "من حيث هو موسيقي، ينبغي أن يدرج ضمن المصورين".

كما تتضح علاقة الموسيقى بالتصوير في تأكيد مايكل انجلو "أن اللوحة الجيدة ينبغي أن تكون موسيقى ولحنا". العلاقة بين كل فن من الفنون القولية والفنون البصرية والسمعية لا تقل عمقا وتفاعلا فهي تتبادل التأثير وهو ما يقود إلى تطورها جميعا.

فالتحية للجمعية في حرصها على أن تبقينا متطورين.