استمعنا خلال العقد المنصرم إلى الكثير من الأحاديث التي تتعلق بهلاك الورق. موت الكتاب وانتحار الورق، وضمور الصحف. تذكرتُ هذه الأحاديث وأنا أمر على المقاهي وصالات الانتظار وأماكن القراءة وإذا بالكتاب الورقي لا يزال حاضراً في أيدي الناس. الصغار والكبار. صحيح أن صناعة الورق مرت بمرحلة تحول، حيث تزامنت الأزمة الاقتصادية العالمية مع زحف التقنيات الإليكترونية، مما أثمر عن إغلاق بعض الصحف، وانتهائها. لكن هذا الحادث لا يلغي حضور الورق في حياتنا.

خلال الأسابيع الماضية حضرتُ معرضين للكتاب، الأول في الكويت، والثاني في الشارقة. العلاقة بين الناس وبين الكتاب جميلة، تشاهدهم بسلالهم يقتنون الكتاب كما يقتنون أحب السلع إلى قلوبهم. يختار هذه الرواية، ويقرأ مقدمة هذا الكتاب، ويتصفح ذلك الديوان الشعري، ويشتري له ولأطفاله. ثم إن الأطفال يسيرون ويختارون أيضاً.

تهدف المعارض إلى تقريب الناس من الكتاب روحاً ومعنىً، يمكن للناس أن يشتروا الكتب من المتاجر، غير أن الذهاب إلى المعرض يعطي الشراء والقراءة والتصفح قيمة أخرى، والمعارض في رأيي ترسخ قيمتين أساسيتين.

القيمة الأولى ما تضخه الفعاليات المصاحبة، من حواراتٍ في السياسة أو الاقتصاد أو الثقافة، وإذا أخذنا معرض الرياض للكتاب الذي سيحلّ علينا بعد أسابيع فإن الفعاليات التي تصاحبه تثير الجدل أكثر مما تثيره الكتب المفسوحة. إذ تتحول الرياض إلى ورشة فكرية، حتى وإن امتلأت بالصخب أو السجال الحاد أحياناً، غير أن قيمة الحوار بحد ذاتها، وقيمة اجتماع التيارات وتحاورها تعني حياة الثقافة في بلادنا.

القيمة الثانية ارتباط الناس بدور النشر. من خلال تواجه يعلم أن هذه الدار لديها تلك النوعيات من الكتب، أو أنها تحتكر أسماء أولئك الكتاب، أو أن هذه الدار مختصة بالشعر والترجمة والرواية، وهكذا. فالتمييز بين دور النشر وحفظ أسمائها والتعرف على الكتّاب الذين يوقعون مؤلفاتهم عن قرب، كل تلك المشاهد تعطي الإنسان علاقةً أكثر حميميةً مع الكتاب، كما يمكنه أن يحاور الناشرين عن الكتب القادمة، أو التي أعلن عنها وتوقيت نشرها، وربما شرح له الناشر قصصاً عن الكتاب وظروف تأليفه مما يضيف إلى ذاكرة المشتري خيالاً ممتعاً عن الكتاب الذي اقتناه.

قال أبو عبدالله غفر الله له: لن تموت صناعة الورق لكنها فقط مرت بتجارب وتحولات، والمعارض التي تأتي في هذا الشتاء الجميل فرصة خصبة لأن تعاد علاقة المنقطعين عن الكتاب، وتتوطد علاقة المتصلين بالكتاب أكثر وأكثر. هذا ما أعجبني في معارض الكتب الممتعة بطقوسها وأحداثها وأنشطتها وجدلها أيضاً.