رحم الله الشهيدات طالبات جامعة حائل ومدرسة "البراعم الأهلية" في جدة وجعل الطفولة المفقودة فرطاً لأهلهم الصابرين على الفقد، وأحسن الله عزاء الجميع وعوضهم خيراً مما يمكن أن تسفر عنه النتائج النهائية للتحقيق.

ورغم أن العواطف ما تزال مشبوبة والمشاعر متحفزة، والمعلومات غير مكتملة والنتائج النهائية للتحقيقات لم تظهر بعد؛ إلا أن "تكرار" الحرائق وتعدد الضحايا، في أكثر من منطقة يقود إلى الاعتقاد بأن الحوادث المتكررة تتجاوز الأخطاء الفردية لتصبح "مؤشراً" على وجود خلل عام، يوجب فتح هذا "الملف" بقدر كبير من الصراحة والوضوح والموضوعية، بحيث لا تختلط الأوراق ولا يتوجه الاهتمام بالمسألة إلى الوجهة الخاطئة التي لا تفضي إلى المعالجة الصحيحة.

لقد أظهرت التحقيقات الأولية أن سبب الحريق هو عبث بعض الفتيات في المدرسة، ومن الموضوعية "المفيدة" أن نتوقع النتائج النهائية للتحقيق الدقيق الذي يؤدي إلى معرفة الأسباب المساعدة في هذين الحادثين، ويدرس الأسباب في الحوادث المشابهة ويرصد القواسم المشتركة بينها.. ومن المعروف أن هذا الأمر يقع في دائرة مسؤولية الجهة المناط بها التحقيق ولكن للرأي العام حق في التعبير عن شكواه مما يراه من أخطاء تتكرر، تذهب ضحيتها نفوس بريئة.

وفي حريق مدرسة براعم جدة يتساءل الناس: هل المبنى الذي وقعت فيه الكارثة المؤلمة كان معداً ليكون مدرسة تتوفر فيها "شروط" المؤسسة التربوية التي منها متطلبات السلامة أم أن المبنى كان عمارة أعدها صاحبها لمن يأتي للإيجار أولاً؟ وما هي مسؤولية صاحب رأس المال الباحث عن الربح في تحوير "وظيفة" المبنى ليكون مدرسة، اعتماداً على أن "شروط" جهات الإشراف لا تستعصي على التجاوز أو أنها ليست حازمة بما فيه الكفاية؟ وما هي مسؤولية جهة الإشراف التي لم تقف عند شروط السلامة أو "تهاونت" في تنفيذ المتطلبات اللازمة؟ وأين دقة ومتابعة الدفاع المدني وتطبيق شروط الأمن والسلامة في الموقع؟

لا أحد أجاب عن هذه الأسئلة في كل الحوادث المشابهة السابقة، الأمر الذي يزيد من "شكوك" الناس في جدية التحقيقات ويزيد من انعدام ثقتهم في قدرة الجهات "المسؤولة" عن هذه الحوادث على إيقاف النزيف.

وقضية نقل الطالبات والمعلمات وسلامة المدارس وما يرتبط بها من حوادث تفتح عدة "ملفات" تستحق أن تكون موضوعات وطنية تتناولها وسائل الإعلام بقدر كبير من الشفافية والحرص على معالجتها، حتى لا تتسرب آثارها السلبية على مشاعر الناس وتنعكس بما يكدر السلم الاجتماعي.. وأول الملفات المتصلة بهذه الحوادث موضوع "المدارس المستأجرة" التي أصبحت إحدى نقاط ضعف المنظومة التربوية وباتت معضلة تفرغ الكثير من الجهود المبذولة من محتواها.. والإحصائيات تكشف أن غالبية مدارسنا مستأجرة وأنها تستعمل مباني ليست معدة لتكون مؤسسة تربوية، وظاهرة "فصول المطبخ" مسألة معروفة لدى الطلاب وأولياء أمورهم وجميع المتصلين بالتعليم، والنوافذ المعلقة وشباك الحديد والممرات الضيقة وانعدام مخارج السلامة في الطوارئ؛ كلها من سمات غالبية المباني المستأجرة، ولأن وزارة التربية والتعليم ـ الجهة المسؤولة عن التعليم العام ـ غالبية مدارسها مستأجرة فلم يعد من المنطقي أن تفرض على أصحاب المدارس الخاصة "شرط" بناء المدرسة على أسس تربوية، وحتى إذا كان هذا الشرط متوفراً في الأنظمة المكتوبة فإنه غير مطبق على أرض الواقع في الكثير من الأحيان. ثم نأتي إلى ملف "السلامة"، وهذا الملف أوراقه متعددة ومحتوياته مركبة، فيها الأنظمة الحاكمة لهذا الموضوع ومنها البرامج المنفذة، وفيها مدى توفر الإمكانيات القادرة على التطبيق، التي يأتي على رأسها العنصر البشري.. ثم ثقافة "السلامة" التي ينشأ عليها الفرد منذ سنواته الأولى بحيث يتربى على مفاهيمها وضوابطها ولا يتخلى عنها في كل الظروف. وهناك ملف التدريب الذي "يترجم" كل العناصر الأخرى. فإذا توفرت المعدات واستيفاء شروط السلامة في المباني ولم يتدرب الإنسان الذي سيستخدمها فإن المحصلة لن تكون إلا "كوارث متعددة". والتدريب هنا يشمل العنصر البشري الذي يستخدم المباني، والإنسان الذي يتفاعل عن طريق التواصل والقدرة على الاستجابة الفورية للحدث.

لن ندخل في "جدال" مع أصحاب شعارات: "نحن جاهزون ولدينا الإمكانيات وما يحقق نجاحنا في مهمتنا".. هذا الشعار وأهله لم يعودوا يقنعون أحداً ويكاد كلامهم لا يصدقه أحد، وإذا أريد لهذا "الشعار" أن يصبح موضع احترام الناس فعلى رافعيه أن يبرهنوا على ذلك، فكل "الكوارث" التي تحقق فيها الأجهزة المسؤولة عن "الأزمات" تكشف عن "هشاشة عظام" تلك الأجهزة وتصلب جهازها "العصبي" وفقدانه قدرة الاستجابة الفورية للحدث.. لن ندعو إلى إقامة "أسبوع" التدريب أو أسبوع "الاستعداد"، فهذه الأسابيع أو الأعوام ثبت عدم جدواها واختصارها في شعارات ما تلبث أن ينساها الناس.. المطلوب وضع "خطة وطنية حقيقية" طويلة الأمد تحميها الأنظمة والقوانين وتسير على قاطرة برامج عملية تطبق على جميع المستويات حتى تصل إلى المستوى الذي يستجيب فيه الجميع لحالات الطوارئ بما تستحقه من مهارات واستعدادات نفسية، وحينها فقط يمكن أن يصدق الناس شعار "نحن جاهزون".