-1-

جورج قرم، مفكر لبناني، ومؤرخ معاصر، كبير المقام. درس القانون الدستوري والعلوم الاقتصادية في السوربون. وعمل كخبير اقتصادي ومالي وكوزير للمالية في لبنان (1998-2000). وهو حالياً أستاذ في الجامعة اليسوعية في بيروت. وقد كتب جورج قرم عدة كتب مهمة منها "تعدد الأديان وأنظمة الحكم"، و"الاقتصاد العربي أمام التحدي"، و"المسألة الدينية في القرن الواحد والعشرين"، وأخيراً في 2006 كتابه الضخم "انفجار المشرق العربي" الذي يعالج فيه معظم المشكلات السياسية والاقتصادية والثقافية في العالم العربي.

-2-

يُركِّز جورج قرم في كتابه "المسألة الدينية في القرن الواحد والعشرين" على الإرهاب الديني الذي شهده الغرب الأوروبي والأميركي، نتيجة للصراع الديني بين الطوائف الدينية المسيحية هناك. وخاصة المذابح والحروب الدموية التي قامت بين الكاثوليك والبروتستانت في القرن السابع والثامن عشر. وبين البروتستانت أنفسهم عندما انقسموا إلى شيع وفرق دينية مختلفة وكان التطاحن الديني والسياسي والمالي بينهم على أشده، ذهبت من جرَّائه آلاف الضحايا، لم يشهد تاريخ الخلاف الديني والإسلامي مثيلاً له. وهذا ما يؤكده جورج قرم بشكل مباشر وغير مباشر، في كل فصل من فصول كتابه المهم. وهو يقول صراحة في مقدمة كتابه: "إن تركيزي في هذا المؤلَّف على الاستخدام السافر للدين عند الغرب في سياسته الخارجية – بخاصة تجاه منطقتنا – والذي يهدف إلى تمكيننا من الرد القوي على ادعاءات الغرب بأن التعصب الإسلامي هو العامل الرئيسي في حالات النزاع، والتوتر، والاستيطان، والغزوات، والحروب. بينما الدول الغربية هي المسؤولة عنها إلى حد بعيد، بما لها من تقاليد تاريخية في توظيف الدين في السياسة، وإلباس مطامعها الاستعمارية الدنيوية رداءً من الأيديولوجية الدينية الحادة".

-3-

وقد سبق أن كشفنا عن جرائم العنف والإرهاب الديني الطائفي المتزمت والمتشدد والأعمى في الغرب المسيحي، في كتابنا (عصر التكايا والرعايا، 1999). وقلنا إن جرائم الإرهاب والعنف الديني التي وقعت في الغرب في القرن السابع والثامن عشر لم يشهد لها تاريخ البشرية في وحشيتها ودمويتها مثيلاً أبداً. وكان من ضمن هذه الجرائم المعروفة شواء روما للفيلسوف والعالم الفلكي برونو على السفود (سيخ الشواء). وسجن الملك هنري الثامن في إنجلترا للفيلسوف توماس مور (1478-1535) صاحب الكتاب المشهور (المدينة الفاضلة – "اليوتوبيا") وإعدامه وتعليق رأسه فوق جسر لندن. كما أنه بذريعة "المؤامرة"، جرى قذف عدد من اللوردات من برج لندن، واعتقال 2000 مشبوه. وتم أيضاً طرد كل الكاثوليكيين من العاصمة، وجرى إعدام خمسة من الآباء اليسوعيين. وكانت إنجلترا إلى جانب ألمانيا وهولندا الأنموذج الأول للعنف الديني الذي استهلته قطيعة هنري الرابع مع البابوية 1534. أما في فرنسا فقد قتل الرعاع الفرنسيون الفيلسوف بيير راموس (1515-1572) في بيته، ثم ألقوا بجثته من الدور الخامس، ثم جرَّه الرعاع، وألقوا به في نهر السين، ثم أخرجوه من السين، وقطَّعوه إرباً! وما حدث في بغداد في ثورة 1956 ضد الهاشميين هناك، لم يكن بعيداً عن كل هذا. فلسنا وحدنا المتوحشين. ولسنا وحدنا من له رعاعٌ في التاريخ!

-4-

وجورج قرم في كتابه (المسألة الدينية في القرن الواحد والعشرين) يؤكد لنا أن "جُرم الرأي بمعناه الحديث تمأسس في أوروبا خلال عهد "محاكم التفتيش" الذي بلغ ذروته في إسبانيا في عهد فيليب الثاني (1555-1598). وتطورت محاكم التفتيش وتم تصديرها إلى الأميركتين الشمالية والجنوبية". وتشرح لنا المؤرخة أرليت جوانا شرحاً وافياً، القوة السياسية والدينية لهذه المحاكم والجرائم الفظيعة التي ارتكبت نتيجة لأحكامها الجائرة والمتعسفة، والتي لا تُقاس بـ "محكمة المهداوي" الشهيرة في بغداد (1958- 1963). كما قام هنري شارل ليا، المؤرخ الشهير لمحاكم التفتيش، بنشر الوحشية المرعبة والهمجية اللتين كانتا تصاحبان أعمال التعذيب للمعارضين. وبلغت أعمال العنف والتعذيب، ونبش القبور، وتشويه الجثث. ولم يكن بالإمكان إيقاف المعارك بين البروتستانت والكاثوليك، لكي يتمتع اليهود والكاثوليك والبروتستانت بكل الحقوق التي يقدمها المفهوم الجديد للمواطنة، الذي جاءت به الثورة الفرنسية 1789.

-5-

ولكن ماذا عن اليوم في الغرب؟ فهل زالت الضغينة والحرابة بين الكاثوليك والبروتستانت، وبين باقي الطوائف الدينية المختلفة الأخرى، أم ما زال الصراع قائماً، ولكن لا دماء كثيرة تسيل اليوم، نتيجة لعوامل سياسية واقتصادية واجتماعية معينة؟ وهل الغرب كما تقول الفيلسوفة الألمانية حنَّة أرندت في كتابها (أزمة الثقافة) إن أزمة اليوم هي أزمة جوهرية. وإن "انحطاط الغرب" يكمن جوهرياً في انحلال الثالوث للدين والتراث والسلطة. وإن الثورات في العصر الحديث، ظهرت وكأنها محاولات جبارة لوصل الخيط التراثي المقطوع، وللاسترجاع، بتأسيس هيئات سياسية جديدة، أدى خلال قرون كثيرة، إلى إعطاء شؤون البشر كرامة، وعظمة. ولكن جورج قرم في كتابه يؤكد، أن مختلف ثورات القرن العشرين، بل أكثر من ذلك، كل الثورات منذ الثورة الفرنسية، قد ساء مسارها، وأدت إلى العودة إلى العهد السابق، أو إلى الطغيان. ويبدو لنا أنه حتى هذه الوسائل للخلاص - التي أتاحها لنا التراث - قد أصبحت غير مناسبة. فالسلطة كما عُرفت في الماضي، لم يجرِ تجديد تأسيسها، لا من قبل الثورات، ولا بالوسيلة الأقل وعداً، بالعودة إلى العهد السابق.

-6-

ونأمل ألا تكون نتيجة الثورات العربية الآن، على هذا النحو من المسار، سيما أننا نشاهد الآن – للأسف الشديد - ما يتمُّ في مصر بعد ثورتها في 25 يناير، والفوضى العارمة التي تجتاحها، وبدء انهيار الدولة، وتدهور الاقتصاد المصري، الذي ينهار بشكل سريع يوماً بعد يوم، رغم حالة الفقر المفزع، الذي كانت تعاني منه مصر قبل 25 يناير 2011، وما زالت فيه حتى الآن!