كان ديفيد يرتعش كلما طلب منه أستاذه أن يقدم نشرة أخبار افتراضية أمام زملائه في الفصل بجامعة بول ستيت في ولاية إنديانا بأمريكا. تهتز الورقة التي يقرأ منها، ويهتز معها الفصل ضحكا وتهكما. لا يتذكر ديفيد أنه استطاع إكمال عرض كامل أمام رفاق فصله دون أن يتعثر في جملة أو يغرق في عرقه. يعتقد كل من يشاهد ديفيد بعد أن يفرغ من أي عرض أنه شارك في ماراثون طويل أو خرج من حلبة ملاكمة؛ إثر ملابسه الملطخة بالعرق ووجهه المكسو بالأرق والقلق.

أداؤه المرتبك انعكس على درجاته الدراسية. حصل على درجات متدنية لم تسعفه للحصول على فرص وظيفية كان يتطلع إليها. كان الخوف من التحدث أمام الجمهور نقطة ضعفه الكبيرة. قرر ديفيد أن ينسى التلفزيون ويتجه للإذاعة هربا من الخوف الذي يأتي بمعية الجمهور والكاميرات. كان أداؤه الإذاعي جيدا. لكنه كان يتأخر على مواعيد التسجيل. ولا يقوم بالإعداد للبرامج القصيرة، التي كان يشارك في تقديمها. بعد إحدى حلقاته الإذاعية سأله المخرج أن يترك الإذاعة. قال له: "لم أشعر يوما أنك تستمتع بالعمل هنا. ابحث عن مكان لا تود أن تخرج منه عندما تنتهي منه". ظلت كلمات المخرج تطارد ديفيد ريب المنون. ظل يبحث عن هذه المهنة، التي لا يود أن يغادر أروقتها بعد أن ينتهي دوامه الرسمي دون جدوى.

عمل في صحف محلية صغيرة، وأقسام علاقات عامة، ووكالات أخبار. بيد أنها كانت مهنا غير شهية بالنسبة له. لا يستمر فيها طويلا. وظيفة استمر فيها شهرا وأخرى لم يكمل فيها 9 أيام. في ليلة شتاء قارسة، رافق أحد زملائه لمبنى محطة تلفزيونية محلية في مدينته. كان صديقه يقوم بمونتاج تقرير تلفزيوني في غرفة خاصة، في حين كان ديفيد يتجول في مرافق المحطة. انتهى صديقه من المونتاج ولم ينته ديفيد من التنزه في الاستوديوهات. شعر ديفيد بحميمية تجاه المكان. قرر مباشرة، وقتئذ، أن يقاوم الخوف، الذي ينتابه أمام الكاميرا والجمهور. حشد أقاربه في غرفة صغيرة وقام بتلاوة أخبار كوميدية أمامهم. ابتسموا في محاولته الأولى. لكنهم لم يضحكوا. في المرة الثانية، ضحكوا وقهقهوا. المحاولتان الصغيرتان شجعتا ديفيد قليلا على مواجهة الكاميرات والجمهور. ظل يتصبب عرقا في كل تجارب الأداء خلال بحثه عن وظيفة. رُفض من 6 محطات تلفزيونية، بيد أنه انضم للسابعة. قال له المحرر، الذي وافق على تعيينه، وهو يقدم له منديلا: "لا بأس أن تعرق. لكن لا تنس أن تحمل منديلا في جيبك لتمسح العرق من على جبينك قبل أن تظهر على الشاشة". منذ ذلك الحين وديفيد يحتفظ بمنديل في جيبه، ليس ليمسح به عرقه، بل بدموع الفرح التي تهطل من عينيه، كلما خرج من الاستوديو فائزا بحضور كبير لبرنامجه (ليت نايت شو مع ديفيد ليترمان).

ليترمان، بدأ حياته خائفا مرتبكا من الجمهور والكاميرات، لكنه عندما ألفها صار نجما يتابعه الآلاف داخل الاستوديو، وخلف الشاشات.

تدرج في مشواره من مقدم نشرة طقس، وتقارير تلفزيونية، وبرامج صباحية إلى أحد نجوم البرامج الكوميدية في أميركا والعالم. نال برنامجه جائزة (الايمي)، الخاصة بالإنتاج التلفزيوني،12 مرة، في عدة حقول، خلال 20 عاما. وحصل على جوائز مختلفة في التقديم والكتابة. وقدم حفل الأوسكار 67 على الهواء عام 1995، أمام أعظم الأسماء السينمائية المعاصرة.

ثمة سعادة حقيقية تختبئ خلف أشياء نخشاها. ما علينا سوى أن نزيحها من أمامنا؛ لنلمس وراءها ما نبتغيه، وما نشتهيه. إن الخوف لا يستحق كل هذا الهلع.

طارد الخوف تطرده. إن الخوف كاللص يهرب عندما تلحقه.