تفسيرات كثيرة وتبريرات من تلك التي أصبحت مللاً نقرؤه كل يوم، وأنانية تتملك كل مسؤول يحاول التشبث بالكرسي. الفكر الأحادي الذي يتكشف للجميع ثم لا يعاقب صاحبه لتصبح الأحادية وحب الذات عُرفاً. ليتهرب الجميع ويبقى المواطن وحيداً يبحث عن الإجابات.

أكتب مطأطئاً هامتي احتراما لذلك المسؤول الذي قطع اجتماعاته، وقاطع مكتبه وانطلق يستجلي الأمر من ذوي العلاقة. وقف حزيناً أمام المأساة، حاملاً طفلة الشهيدة ودموعه تسابق ذراعيه الممتدتين لتهدئة الطفلة، لم يسعفه شعره ولا فصاحته أمام ألم اللحظة. رجل ذهب يواسي أسرتي شهيدتين، ولا أشك لحظة أنه كان يبكي من الداخل ويعزي نفسه تجاه مصاب الوطن فيهما. أمير استدعى كل خبراته وقدراته ومسؤولي منطقته ومسؤولي الوزارة ليفسروا المأساة. أعلم أنه سيكون على الوعد وسيعالج الخطب.

إلى كل من برأ نفسه، ووجه تهمة لغيره، لكل من تحدى أن تثبت له علاقة بمشاهد القفز من النوافذ بحثاً عن الحياة. أقول: هلا صبرتم بعض الوقت إلى أن تجف دموع الأطفال على أمهاتهم، إلى أن تغادر المصابات غرف المستشفيات. هلا توقفتم عن التصريحات التبريرية، فنحن والله نعلم أن الكل سيقول نفس الكلام، وسيبكي على الأطلال، لكنه لن يقول أنا مسؤول وهذا هو المؤلم.

أكتب وفي ذهني 1000 سؤال وسؤال، لن يجد أي منها جواباً. فلماذا حدث الحريق؟ ومن وضع جميع العوائق أمام خطة الهروب من الحريق؟ ومن صرح أن المدرسة مطابقة للمواصفات مع أنه لا مخارج طوارئ ولا سلالم خارجية ولا طفايات حريق؟ ولا أنبوبات أكسيجين؟ كيف تنفذ المدرسة خطة هروب من الحريق قبل أسبوع ولا تستطيع أن تطبقها عندما تصبح واقعاً؟ هل خرجت الطالبات في العملية الافتراضية من المدرسة؟ وكم استغرق إخلاؤهن؟ ومن ساهم في هذا التمرين من الجهات المعنية؟ ما هو كم الخطر الذي يستشعره الإنسان في سن كهذه ليقفز من الدور الثالث؟ كيف هربت الطالبات من النوافذ؟ وأين طائرات الإخلاء؟ وأين عربات الإسعاف في وسط المدينة؟ من اعتبر المدرسة مثالية لتنفيذ نشاطات إدارة التربية والتعليم بالمحافظة؟

أكتب بعيداً عن تأثير اليوتيوب والمقاطع التي تقطع القلوب. بعيداً عن هذه المصيبة التي ينتجها المسؤول عندما يقول للمواطن "توكل على الله"، وعند الخطب يقول "هذا أمر مؤلم حقاً". بعيداً عن الفضائحية التي يمكن أن يتبناها بعض مستخدمي الإنترنت مستخدمين هذه المقاطع. بعيداً عن المنتديات وغرف "التشات" التي أصبحت هذه المصيبة شغلها الشاغل.

أكتب من أجل امرأتين، شهيدتين، عظيمتين، سيخلدهما التاريخ، امرأتين لم تفكرا في تحديد المسؤوليات والصلاحيات والإجراءات. ولم تناقشا حالة أسرتيهما وأطفالهما إذا لم تعودا للمنزل، امرأتين تجاوزتا الماديات والتبريرات والتفكير بالذات، امرأتين تعجز أن تلد مثلهما النساء.

شهيدتان أنقذتا براعم الوطن. بقيتا تتنفسان دخان الحريق، وتخرجان بناتنا من المدرسة، تنقذانهن من الحرارة واللهيب والخوف. استمرتا في إنقاذ الأرواح حتى لفظتا أنفاسهما. أعطتا عمرهما لبراعم الوطن، ومنحتا حياتهما فداءً لمستقبل بنات أحبتاهن.

أكتب من أجل ريم النهاري، معلمة في عمر الزهور، شجاعتها تذهل الرجال. تخرج طالباتها من النافذة طالبةً طالبة. حتى قضت نحبها عند خروجها من نفس النافذة.

ريم مثال للتضحية في حياتها الخاصة، فهي تعول أسرتها بعد مرض والدها ووفاة أمها قبل عام. هذه الأسرة التي تتكون من الأب والأشقاء الأطفال الخمسة استهلكوا كل دخل ريم.

كان أملها الوحيد أن تشتري شقة لتعيش فيها أسرتها التي أرهقها الإيجار. لم تفكر ريم في شيء سوى البنات اللاتي كانت عيونهن تبحث عن الأمل في معلمتهن. نعم لقد علمتهن الحروف، ولكنها علمتهن أمس ما هو أهم من الحروف... علمتهن التضحية.

غدير كتوعة، مساعدة مديرة المدرسة. تعمل عشرين عاماً في التربية والتعليم لتختم حياتها بأعظم خاتمة. كانت تحب أمها وتتقرب منها، لها ابنتان، لكنها لم تفكر في أي شيء سوى طالباتها.

أخرجتهن خلال الدخان الأبيض والدخان الأسود. تُخرج جميع الطالبات، تعود لتتأكد أنه لم يعد هناك أحد في المدرسة. تخرج لتسقط على الممر الخارجي. تبقى هناك حتى تلفظ آخر أنفاسها.. فإلى جنة الخلد يا غدير.

هاتان الشهيدتان استحقتا أعلى الأوسمة بجدارة. استحقتا أن ترسما طريق المستقبل لشهداء الوطن. الشهداء في ساحات المعارك، والشهداء لإنقاذ الأرواح. سنسمي الشوارع باسميكما، وسنسمي المدارس بكما، وسنحقق كل طلبات أسرتيكما، وسنمنحكما أعلى أوسمة الوطن. فهو أمر استحققتماه يا فدائيتي الوطن.

لكنكما ستلهمان المشرعين ليضعوا نظاماً خاصاً بالشهداء. نظام يقدِّر كل من يضحي من أجل الوطن وأبناء الوطن. نظام نسميه "نظام الشهداء"، يفصح عن ما يقدمه الوطن لمن يضحون بأرواحهم من أجله ومن أجل أبنائه. يحدد كيف يعاملون وما يحصل عليه ورثتهم من مزايا، يؤكد لكل من يضحي أن الوطن لا ينسى أبناءه وبناته العظام.

وسيستمر التحقيق.. لكن لنكافئ شهيدتينا وأسرتيهما قبل أن تنتهي البيروقراطية من أسئلتها وأنا على ثقة أنها لن تنتهي.