من الأشياء العزيزة في ذاكرتي الشخصيّة والثقافيّة والتي سوف تظلّ نديّةً أبداً، أيّامُ التسعينات بين الأحساء والظهران والرياض حين كنّا نلتقي أو نتواصل ـ مجموعة من أصدقاء الكلمة ـ نتبادل الكتب ونناقش ما قرأناه منها.. ونعطي انطباعنا عمّا يدور بيننا من نصوصٍ كتبناها. لم نتقاسم التربيت على الأكتاف ولا إطلاق آهات الإعجاب بمجانيّة. رغم المحبة العميقة التي تجمعنا، لم نتحرج من إبداء الرأي، وأحيانا في قسوة، قبالة إنتاجنا الإبداعي.

أقمنا عبر لقاءاتنا وما نرسله لبعضنا بريديّا (الإنترنت لم يدخل حياتنا بعد) ورشة صغيرة تدقّق كتاباتنا؛ مراجعةً وتعديلاً وتنقيحاً أو حذفاً وإلغاءً. يستوي في هذا النصوص أو المخطوطات التي تُجهّز للنشر. ثمّة تقبّل واسع للرأي والاقتراح والنقد.

في هذه الورشة كنّا قراءً بقدر ما نحن أصدقاءُ. وفي المسافة بين الصديق والقاريء، كان العمل الإبداعي يتخلّص من زوائده ويخلص إلى نواته، وإنْ لم يتحقّق ذاك يذهب إلى النسيان.

تربية العين الناقدة من أثمن الدروس التي مرّت بنا، وما جعل هذا الدرس نافذا وثمينا لدينا؛ هو عدم الاطمئنان إلى النص في نسخته الأولى. هناك قلق لا يستقر، وحكمٌ معلّق في صلاحيّة المكتوب. ننتظر العيون الصديقة القارئة التي لا تحجب محبتَها ولا تخفي أو تغلّف نصحَها.

لا يعني هذا أنّ كلّ ما نشرناه كان ناضجاً وسويّا، ولا تفوتُهُ العثرات. ثمّة نقصٌ ملازم لكل تجربة وثغرةٌ مصاحبة لكل عمل كتابي، وما من شأنه أن يحرّض على التدارك والاستكمال وبذل الجهد لتطوير التجربة وإدخالها في أفقٍ آخر مختلف؛ تتطلّبه التجربة نفسها، وتستدعيه الكتابة التي تنفر من الثبات والجمود على صورة واحدة يأكلها التكرار، ويستنفدُها الركون إلى صيغٍ قارّة ينبغي أن يلفحُها هواء التحوّل والتغيير.

ربّما يماري البعض ويقول إن الإبداع شأنٌ فرديّ وهو مختبر خاص خاضعٌ للمبدع وحده ولا صلة له بمفهوم الورشة باعتبارها عملاً جماعيّا؛ لهم من الرأي والذوق بعدد أفرادها. وهذا القول على وجاهتِهِ إلا أنه لا يصمد في التجربة العملية. ذلك أن الموهبة في وجودها بالقوة، ليست هي في وجودها بالفعل. تحتاج إلى بيئة حاضنة ترشد وتبصّر وتسرّع أيضا؛ بديلاً من الثقة المفرطة التي تضخّم الأنا الإبداعيّة أو الخبط العشوائي في محاولة الصواب والخطأ والوقوع في الاجترار وإعادة الكتابة دون انتقال أو بشرى بجديد.

ولعل من مشكلات النشر الإلكتروني ـ على إيجابيّاته وقد كتب الكثيرون عنها ـ التي تتأكّد يوما بعد يوم، هي خفوت روحِ الورشة (المفارقة أنّ الإنترنت ورشة كبيرة) حيث يظهر النص، أحيانا، مشوبا بالأخطاء الفادحة إنْ لم نقل العاهات بسبب افتقاره إلى "العين الصديقة الناقدة".

أتمنى على جميع أنديتنا الأدبيّة أن تدرج في فعالياتها الموسميّة برنامجاً يختصّ بإقامة ورش عن الكتابة الإبداعيّة تحتضن المواهب وتيسّر سبل إنضاجها، لا بروزها وحسب.