ترى.. ما الذي كانت تفكر فيه تلك الطالبة وهي تجزم أمرها وتقرر القفز من الدور الثاني إلى الأرض هربا من الحريق الذي شب يوم السبت الماضي في مدارس براعم الوطن في جدة، كيف كانت تقيس حجم الألم المحتمل بين حرارة النار التي تقترب من جسدها الغض وبين ألم الارتطام بالأرض والقفز من مكان بهذا العلو؟

كانت على الأغلب قد بدأت تتحسس ظلم النار، فقررت أن تهرب من ألم حاضر إلى ألم قد يأتي بعد ثوان.

حجم الألم الذي زرعته تلك الصور ولقطات الفيديو لمشاهد الطالبات وهن يهربن من الحريق كان كبيرا جدا.

رزان النجار كانت تراقب النيران وهي تأكل حقيبتها، كانت أكثر شجاعة من تهديد ألسنة اللهب، فرمت بنفسها في يد الله وفي رعايته. اجتهدت لتصنع فكرة جديدة ومخرجا للحياة وصد الأذى عن ذاتها الصغيرة، في عمر لا يزال مبكرا على الألم وهبها الله جناحا في صدرها وريشا في روحها فحلقت قليلا لتلقط حياتها ونجاتها.

ريم النهاري.. بأحلام كل السعوديات وبياضهن وقوتهن التي لا نكتشفها سوى في الأحداث، كان بإمكانها أن تستجيب للذعر الذي ملأ أرجاء المدرسة وتبحث لنفسها عن مخرج، لكن استجابتها كانت للطالبات ولأمانتها ولمسؤوليتها، استطاعت أن تنقذ طالبات فصل بأكمله، لم تحتمل ريم أن ترى وهي تحملق في تلك الوجوه البريئة الدخان وهو يخنق تلك الأنفاس المرتبكة والخائفة، فقررت أن تهب خوفها للدخان، وأن تستبدله وفاء وإيثارا وشجاعة، ضحت ريم بنفسها وشبابها لتنقذ بناتها من الطالبات.

حقا.. إننا لا نعرف بناتنا وأخواتنا إلا حين الأزمات التي تكشف لنا وجها رحيما وأمينا وصادقا وقادرا على التضحية والوفاء والعطاء، بناتنا اللواتي ظللنا ننشغل فقط بالحديث عن شكل عباءاتهن والخوف منهن أن يهتكن الفضيلة وأن يمثلن فتنتا الكبرى، هن الآن يقدمن نماذج صادقة للمرأة السعودية، التي ورغم أنها قد تراجع موقفها في سلم التنمية بفعل غيابها والدعوة إلى غيابها عن الحياة العامة إلا أنها تهب الحياة لغيرها وبإيثار وعطاء منقطع النظير.

ترى كيف كان الوضع الوظيفي للمعلمات في تلك المدرسة الأهلية، وهل حظين بتطبيق قرار رفع الحد الأدنى للأجور الذي صدر مؤخرا، وكم توفر لهن تلك الوظيفة من احتياجاتهن واحتياجات أسرهن. إلى أي درجة يشعرن بالسعادة والأمان والطمأنينة؟

تلك المدرسة التي حشرت قرابة ألف طالبة في مبنى صغير يفتقر لمختلف إجراءات السلامة، والشهادات تتحدث عن استخدام المدرسة لمخارج الطوارئ كفصول دراسية لاستيعاب أكبر عدد من الطالبات، مما يعيدنا إلى السؤال عن الرقابة ووسائل السلامة في المدارس الأهلية ضمن مسؤولية تتوزع بين الجهة المشرفة وبين الدفاع المدني، وكيفية إدارته وفرضه لتلك الأنظمة.

غدير كتوعة المعلمة الأخرى التي استشهدت في هذه الحادثة، كافحت غدير النار بأنفاسها، وحالت بين الدخان وبين صدور الطالبات، أنقذت أكبر عدد ممكن، كان الدخان يحكم السيطرة عليها، ألقت بجسدها المنهك على الرصيف وفارقت الحياة.

الذكريات التي ستبقى عالقة في أذهان الجميع حول الحادث ستهب للوطن درسا جديدا في وفاء ونبل وعطاء السعوديات وإيثارهن، في مشهد يستحق التكريم والامتنان

يتحدث الشهود عن مشكلة واجهت الطالبات بسبب السياج الحديدي الذي يغطي نوافذ الفصول الدراسية، وتلك نافذة لتناول واقع المؤسسات النسائية المغلقة وإلى أي درجة يتحكم الإغلاق في نسف كثير من مبادئ ووسائل السلامة، ناهيك عن حاجة المدارس الملحة لموظف يختص بالطوارئ والحوادث كما هو قائم في كثير من المجمعات والدوائر وبخاصة التي تضم أطفالا كالمدارس والملاهي.

في الواقع كان حضور الأمير خالد الفيصل إلى موقع الحادث مؤثرا للغاية، بل كان يقدم فكرة جديدة مفادها أننا في زمن المسؤول الميداني، وليس فقط مسئول اللجان والتوجيهات الهاتفية وقراءة التقارير.

في أقل من أربع وعشرين ساعة استقبل السعوديون قصة موت أخرى لا تقل إيلاما، فمن غرب الوطن إلى شماله انفلت الموت من عقال القدر ليحصد أرواح اثنتي عشرة طالبة جامعية كن متجهات من مدينة الحليفة إلى جامعة حائل إثر حادث مروري. الطالبات يقطعن يوميا 400 كيلو متر ذهابا وإيابا للجامعة، وهي مسافة طويلة بالنظر إلى التعقيد الشديد في عملية النقل الخاص بالطالبات الجامعيات واقتصاره على سيارات خاصة.

الأسئلة أكثر من أن يتم طرحها لكن الإيمان بالقدر وإذ يخفف الشعور بالمصاب، لكنه لا يعفي من تواتر طرح الأسئلة والبحث لها عن إجابات واقعية.