مبدأ حماية المستهلك ما يزال "تائها" بين المسؤولية الفردية التي تبادر إلى ملاحقة مظاهر الغش وبين مسؤولية الجهات التنظيمية المنوط بها هذا الدور. والضحية هو المستهلك الذي لا يدري أين يتجه لرفع الظلم عنه. والمحير أن الجميع "أفرادا ومجتمعا وهيئات" يقع عليهم هذا الظلم، وإن بدرجات مختلفة، لكنهم لا يواجهون المتسبب بما يستحق من إجراءات توفقه عند حده. فهل السبب يرجع إلى انعدام القوانين الضابطة لجرائم الاستغلال أو ضعفها وقوة ردعها أم أن السبب يعود إلى عدم إحساس الكثيرين بتأثيره على حياتهم مع الوفرة لديهم؟
في الأسبوع الماضي جددت الصحف وبعض القنوات التلفزيونية الحديث حول "ضياع" حماية المستهلك في دهاليز "البيروقراطية" في ظل تراخي المساءلة وملاحقة المتهاونين. وسلطت الضوء على عدم تنفيذ الأمر الملكي القاضي بتوفير (500) وظيفة لمراقبة الأسواق لحماية المستهلك من المغالاة في الأسعار والغش التجاري. وما جاء من أن وزارة التجارة ليس لديها خمسمئة وظيفة بمسمى مراقب، وأن تنفيذ الأمر الكريم منوط بوزارتي المالية والخدمة المدنية. وبين "الوزارات" وممراتها يتراجع التأثير الإيجابي للقرار في نفوس المستهدفين. وهكذا تسيء "البيروقراطية" البليدة إلى سياسة الدولة تجاه مواطنيها وتفرغها من معانيها وأهدافها الكبرى.
وقد كتب الكثير حول معاناة الناس من ارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية وتكلفة الخدمات وزيادة رسوم التعليم في القطاع الخاص، وشيوع البضائع المغشوشة في أسواقنا مع تراجع القوة الشرائية للريال، والتهام الغلاء كل زيادة تطرأ على دخول العاملين في القطاعين الحكومي والخاص. وهذا الواقع جعل الناس توجه أصابع الاتهام إلى الجهات المسؤولة عن الخدمات "لتكاسلها وبطء حركتها وضعف استجابتها وتفاعلها مع ما يجري من حولها حتى قيل إن هذه الأجهزة لا تحس بما يجري على أرض الواقع لأن الذين بيدهم مقاليدها لم يمسسهم ما مس الناس ولم يلحق محيطهم لهيب الغلاء". وقبل أشهر أصدر مجلس الوزراء برئاسة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز قرارات مهمة لمعالجة مشكلة الغلاء وتخفيف الضغوط المعيشية على المواطنين والمقيمين على أرض المملكة، وهي (17 قراراً) وصفها الاقتصاديون، حينها، بأنها تاريخية لأنها تهدف إلى حفظ التوازن بين تحسين معيشة المواطن وتمكين الاقتصاد الوطني من الاستمرار في النمو المضطرد، الذي يظل قادراً على خلق المزيد من فرص العمل وزيادة الإنتاج، فهي تشمل قرارات تتصل مباشرة بحياة الناس، أريد لها أن تساعد على تخفيض تكلفة الكثير من السلع وبعض الخدمات وزيادة دخول شرائح من المجتمع. ومن تلك القرارات: تحمل الدولة 50% من رسوم الموانئ لمدة ثلاث سنوات وتخفيض رسوم رخص السير ونقل الملكية، وتخفيض رسوم استخراج جواز سفر المواطنين ورسوم إقامات العمالة المنزلية، وزيادة دخول موظفي ومستخدمي ومتقاعدي الدولة بنسبة 5% وزيادة مخصصات الضمان الاجتماعي بنسبة 10%، وقرارات تمس حياة الناس، بعد فترة، وهي المتعلقة بالإسكان الشعبي ونظام الرهن العقاري.
كان الهدف ـ وما يزال ـ من تلك القرارات هو تحسين حياة الناس ومساعدتهم على التعايش مع موجة زيادة الأسعار وارتفاع تكاليف الحياة، وهذا لا يتحقق إلا إذا لعب الجهاز الرقابي دوره كاملا غير منقوص. وهذا الجهاز، أو الأجهزة، لا تكتمل فاعلية جهوده إلا بوعي المستهلك ونهوضه بمسؤوليته، لمواجهة كل من يعمل على سلب حقوقه أو سرقة ممتلكاته بصورة مباشرة أو غير مباشرة، أي أن "حماية المستهلك" لن تقوم بمهماتها على الوجه الأكمل إلا مع شيوع وانتشار ثقافة "الحقوق" والدفاع عنها من أفراد المجتمع، فلا ينتظرون أجهزة إدارية لتحميهم من الغشاشين مهما كانوا. وهو ما يستدعي أن يبادر كل مواطن إلى مساندة أجهزة الرقابة وتزويدها بالمعلومات والبيانات التي تؤكد مخالفة بعض أهل السوق للأنظمة، وأن تنشط مؤسسات المجتمع المدني لتوعية الناس بضرورة إيقاف أساليب الهدر والتبذير التي – للأسف – باتت إحدى سمات مجتمعنا. ويأتي القادرون وقادة الرأي في مقدمة المسؤولين عن محاربة هذا الاتجاه، ولا يتأتى ذلك إلا بالقدوة العملية التي يراها الناس ويتناقلونها وينشرونها، وليس بالأحاديث والخطب والمقالات التي أثبتت الأيام أنها لا تعدل السلوك، إذ شاع في مجتمعنا مظاهر التناقض بين ما ندعو إليه وبين ما نفعله. ودعوة الشركات والمؤسسات الوطنية الكبرى، التي تؤمن بالمسؤولية الاجتماعية، إلى رعاية برامج التوعية الموجهة إلى المجتمعات الشبابية والأسرية لتعديل سلوك الإنفاق والاستهلاك.
وقد يبدو للبعض أن هذه الدعوة تغفل عن تعارض "الترشيد في الإنفاق" مع فلسفة الاستهلاك التي يقوم عليها رأس المال العامل في الأسواق المفتوحة ويشجعها. لكن نقول لهؤلاء إن المسؤولية الاجتماعية للشركات الوطنية تتجاوز النظرة الخاصة إلى مراعاة مصلحة المجتمع الكبرى، ولهذا نرى هذه الشركات تعمل على مساعدة الشباب في إيجاد وظائف وهي تنفق على ذلك دون أن تنظر إلى العائد المباشر، بل تستند فلسفتها إلى أن المجتمع الواعي المنتج عامل استقرار في السوق يزيد من قدرة الإنسان الشرائية. والمطالبة بأن ترعى بعض المؤسسات الإعلامية برامج لتوعية المستهلك يشارك فيها المبدعون من كتاب نصوص إلى مصممي إعلانات ومبتكري أفكار.
تحتاج ثقافة حماية المستهلك إلى أن تصبح "مشروعا" وطنيا تنعكس آثاره الإيجابية على الجميع. وهذا يعني أن يقدر الكل خطره وأهميته حين يتفقون على أنه ليس مشروعا موجها "للفقراء" فقط.