يبرز الطبيب والمهندس الحكوميان في مجاليهما، فيذيع صيتهما بين الناس، فيتجه الكثير منهم إلى العمل الخاص جزئياً أو كلياً، فيبدع كلٌ في مجاله أكثر وأكثر من ذي قبل؛ لأنه هو الذي يتحكم في سير عمله، وفي كيفية تطوير ذاته وأعوانه وطريقة تعامله في مستشفاه أو عيادته أو مكتبه.

ومثلهما القاضي الذي يطمح لزيادة مدخراته، فيترك القضاء ويتجه إلى العمل في المحاماة والاستشارات، فيتهافت عليه أصحاب الحاجات؛ خصوصاً إن كان عمله القضائي في مدينة كبرى، وكانت خدمته تزيد على نصف خدمته النظامية، فمثله في الغالب يعرف أعقد مسالك القضاء، وأقرب الطرق الموصلة للحكم الذي يأمله موكلوه.

ومثله كاتب العدل الذي يتجهز لقيادة مكاتب التوثيق الخاصة القادمة قريباً بحول الله؛ متى اعتمد بدء تقديم خدماتها.

ومن المؤمل أن يصل بنا الحال من التقدم في مجال القضاء إلى صدور أنظمة تسمح بافتتاح محاكم خاصة، أو مراكز تحكيم؛ لتتولى نظر القضايا التي يتراضى أطرافها الترافع أمامها، ويتفقان على تحمل أجورها وفق عقود معتمدة، على أن تقوم هذه المراكز مقام المحاكم الابتدائية، ويكون تدقيق أحكامها من محاكم الاستئناف مباشرة؛ حتى لا تتعطل مصالح أصحابها بتأخير البت في خلافاتهم لدى المحاكم الابتدائية المزدحمة بالأعمال والقضايا المتنوعة.

كل هذا إما حاصل، وإما في طريقه إلى التنفيذ مع اهتمام مقام خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز أيده الله بتطوير مرفق القضاء، غير أن هناك خدمات قضائية لم تأخذ نصيبها من البحث والاهتمام، ولا تزال تُؤدَّى بالطرق التقليدية المحفوفة بعدم الموثوقية بأدائها ولا بمن يؤديها.

فتبليغ المواعيد والأوامر القضائية لا يزال - في أحسن أحواله - عن طريق المحضر؛ الذي عفا على وظيفته الزمن، فلم تعد تواكب التقدم العلمي والتقني المعاصر؛ لأمرين:

1- أن إمكانات المحضرين اليوم محدودة جداً ومقيدة بأزمنة يستطيع المراد تبليغه التخفي عن الأنظار خلالها.

2- أن التبليغ المعاصر أسرع وأسهل وأقل كلفة من التبليغ عن طريق المحضرين؛ لأنه يحصل عبر رسائل الهاتف الجوال، أو بالبريد الإلكتروني، أو بالرسائل الصوتية للهاتف الثابت، أو بالفاكس، ونحوها من وسائل الاتصال المتنامية.

وهناك التحري عن عدالة الأولياء والنظار للقاصرين والأوقاف، وكذا عن أحوال الأزواج في قضايا الأحوال الشخصية، وكذا عن الشهود بعد القدح في شهاداتهم، وكذا عن قضايا تلجئة الأموال من مدعي الإفلاس أو الإعسار الكاذب، ونحو ذلك من قضايا التحري، فإنها تحتاج لجهاز متابعة صادق دقيق، يقوم بتلك المهام، ويحل محل ما نص عليه الفقهاء الأوائل وأسموه في كتبهم بـ (ملازمة المدين للتضييق عليه، ومعرفة خوافي أموره المالية).

ومنها ما يعرف اليوم بـ (مكاتب تحصيل الديون)، التي أثبتت فاعليتها في ملاحقة المماطلين، وفي التضييق عليهم واضطرارهم إلى سداد ما بذممهم من ديون، عبر وسائل بعضها متاح ومقبول، وبعضها الآخر غير مقبول ولا مستساغ، لكن غياب التنظيم لهذه المهنة يجعل لكل مكتب طريقته في استفزاز من يستهدفهم بنشاطه.

أما مكاتب التحري الفاعلة في الدول المتقدمة في أنظمتها وقوانينها: فهي تعمل وفق نظام محدد وواضح للعاملين في مكاتب التحري ولمن يستهدفونه، ولها غطاء قانوني يحكم تصرفاتها، ويحفظ لكل متضرر من ممارساتها حقه في التعويض.

وهذه المكاتب أو الشركات تقوم بخدمات أقرب ما تكون إلى الخدمات الأمنية، ولذلك فإن أفضل من يقوم بها هم رجال الأمن المتقاعدون، من رجال المباحث ورجال التحقيق الجنائي؛ لمعرفتهم بأصول مهنهم وفروعها وزواياها وخباياها، ولقربهم من الدوائر ذات العلاقة التي تكمل في خدماتها بعضها بعضاً، ويمكن لتلك الشركات أن تستعين بخبراء في مجالات عدة؛ حتى تقوم بأداء مهامها على نحوٍ متقنٍ وسريع النتائج، وسأذكر قصة أوردها أحد الفضلاء، وملخصها:

عندما صدر لإحدى الشركات حكم على أحد العملاء بمبلغ كبير تهرب العميل عن التنفيذ، حتى أعيا الجهات الحكومية ذات العلاقة الوصول إليه، ولم يوفق أصحاب الشركة في معرفة السبيل الذي يسلكونه لتحصيل حقهم من هذا العميل الهارب، إلا بعد أن اهتدوا إلى توكيل رجل متقاعد ذي خبرة طويلة في مجاله، وبعد الاتفاق معه تفرغ الرجل لجمع المعلومات عن العميل الهدف، فوقف على معلومة مهمة هي أن الرجل يملك استراحة خارج المدينة، فكمن له رجل التحري أياماً ليعرف مواقيت قدومه؛ إلا أنه لم يوفق في الالتقاء به؛ لأن العميل كان شديد الحذر، فما كان منه إلا أن تواصل مع حارس الاستراحة مباشرة، وبعد ملاطفته الحارس أخذ منه رقم جواله، ثم بطريقته الخاصة عرف رقم جوال كفيله الهارب، وأثناء مكالمة الكفيل الهارب لمكفوله الحارس استطاع رجل التحري أن يحدد موقعه عن طريق شركة الاتصالات، وهناك تمكنت دورية الشرطة من القبض عليه.

هكذا تمكن ذو الخبرة من تتبع هاربٍ متلاعبٍ بأموال الناس، وهكذا يتمكن كل ذي مهنةٍ من الاستفادة من خبراته في العمل المنوط به متى كان نشاطه المستثمر داخل اختصاصه.

فلو أننا استفدنا من التجارب الدولية المتميزة في مجال شركات البحث والتحري، وأخذنا من إيجابياتها ما يتوافق مع أنظمتنا، وتلافينا ما نراه من سلبياتها: لتوافر لنا دعمٌ متميزٌ للجهات القضائية يعمل على اختصار الأوقات وتقليل النفقات.