تشعرك بعض مباريات كأس العالم الحالية بالنعاس، ولذلك قد تغفو قبل نهاية الشوط الأول أو الثاني بدقائق ، ولا يوقظك سوى الضجيج الذي يحدثه أصوات حاملي الطبول لابسي الجلود المغطاة بالفرو الطبيعي ، مصحوبين بزئير أسود أفريقيا المفترسة . والحقيقة أن هذا المشهد ليس ضمن فيلم وثائقي ، بل هو فاصل دعائي لشركة مشروبات غازية شهيرة ، فرض التراث الأفريقي المثير نفسه عليها ، لأنها شعرت أن هذا التراث موجود في كل مكان وفي تفاصيل كأس العالم بجنوب أفريقيا، حتى في ألوان كرة المونديال "جابولاني" المثيرة هي الأخرى للجدل. ولأنها شركة تجارية يهمها أن تتعامل مع أي شيء يثير اهتمام واعتزاز الجمهور المستهدف فإنها تعاملت مع هذا التراث بحرفية فجعلته المرتكز الأول في حملتها الدعائية . وفي كل مرة أشاهد فيها هذا المشهد التسويقي المذهل ، تتسابق في رأسي أسئلة من قبيل "ماذا لو كانت كأس العالم في بلدنا ؟ ، هل سيفرض تراثنا التقليدي نفسه على شركات كبرى ، لتجعله مادة لحملاتها التلفزيونية؟
بكل تجرد يمكن أن نقول إن لدينا الموروث البصري المثير للاهتمام، مثل ما قدمته جنوب أفريقيا ( ممثلة لعموم القارة السمراء) وربما أكثر إثارة وعمقا وأصالة ، حتى إن عقلي شطح قليلا فاستبدل أمام عيني صورة هؤلاء الراقصين على الطبول وأبواق (فوفوزيلا) وهم يرتدون الجلود والفرو ، بفرقة شعبية محلية يلبس أفرادها "الحزمة" و" الصديرية" متوجة بـ" جنبية" تخطف الأبصار، وهي تؤدي العرضة أو الدمة. ثم انتقل المشهد لفرقة أخرى ترقص على أنغام المزمار الحجازي الذي كان المنافس الأول لأبواق(فوفوزيلا) ، أما ملابسها فقد تنوعت بين الثوب ذي الألوان الزاهية والعمة البرتقالية .
وفجأة زأر الأسد "المحلي" في وجهي وقد ملأ الشاشة وصاح " فضحتونا أمام العالم .. ما لقيتم فنون شعبية تمثلنا إلا هذه ، وكمان بملابس ليست منا ولا لنا .. فمن قال لكم أن الحزمة والجنبية تمثل تراث بلدنا ؟" . فعاد لي عقلي وأيقنت أنني شطحت في حلم قد يتحول لكابوس لو استمر قليلا، حيث كان المشهد الحقيقي أسدا أفريقيًا يتوسط حاملي الطبول و الـ"فوفوزيلا" وقد ضحك في وجهي قائلا " رح شف الشوط الثاني أحسن لك واترك الأحلام لغيرك" .