(إن وعيا مشحوذا أكثر مما ينبغي يصبح، إذا طال الزمن، شفرة مدية ماذا يفعل المرء بها إن لم يوجهها إلى نفسه). هي ليست دعوة من ريجيس دوبريه للانتحار، إذا ما تعاطينا مع العبارة تعاطيا نصوصيا صرفا. بل يمكن فهمها بعيدا عن فخ التساؤلات على أنها تحريض على نحر القلق، الفوضى، الأنا، الأحقاد الصغيرة، سوء النوايا والظن، تراخ في الأخلاق، كبر، جبن، لؤم، تملق وتسلق، وما إلى ذلك من حقارات وصغائر ورذائل، فما قيمة الوعي إن لم يهذبنا لنغدو أجمل، منصرفين أبدا إلى نشر الحب والسلام، كي نتفرغ فعليا لـ(عمارة الأرض)، وهنا يمكن أن نفهم المعنى بمجازية تنفتح بجمال آسر على كل ما هو خير للبشرية. ومن خير البشرية أن ينتصب الكاملون في منصات القيادة، ذلك أن (أهمية الكاملين، تكمن في أن الناقصين ما أن يلمحوهم حتى يجهدوا للحاق بهم). نشوة عقلية مستني مع تأملات لدوبريه، فرضتها عليه العزلة، والعزلة - أيا كانت – إن لم تقدك لأفياء التأمل الذي يتفايض فيك وعيا، فأنت لا تستحق ما وهبك الخالق من عقل لا بد أن ترى به، فيما أتصور.

بعد مقتل جيفارا، اعتقلت بوليفيا الكاتب والمناضل الفرنسي ريجيس دوبريه وحكمت عليه بالسجن ثلاثين عاما، ولكن انقلابا حدث عام 1970 خفف عنه قيود الزنزانة، فسمح له بالقراءة والكتابة، قبل أن يؤدي تدخل الحكومة الفرنسية إلى إطلاق سراحه.

الزنزانة كان نتاجها (بين نارين وأربعة جدران)، كتاب هو ثمرة أفكاره وتأملاته. في كثير من المقاطع - حسب مترجم الكتاب سهيل إدريس - يخاطب الكاتب نفسه متحدثا عن كثير من هموم المثقفين، ويمارس نقدا ذاتيا من غير أن ينسى أنه ينتمي في أصله لـ"البرجوازية الصغيرة" لذلك كان العنوان الرئيس للكتاب (مذكرات برجوازي صغير).

لاحظ هنا أن دوبريه كرفيقه جيفارا، مثل عديد المتمردين على برجوازيتهم الصغيرة، ما يجعلك تتساءل: أهو ذاك الوعي المشحوذ كالشفرة، الذي حولهم. ليدركوا مبكرا (أن الوقت مفرط الطول، والحياة مفرطة القصر)؟

تبقى أكثر التأملات إرعابا قوله (المطلوب من المرء أن يقرأ الشعر لكي يتعلم أن "يفكر باستقامة"، وعمل الكتابة يتلخص في أعماقه باللاكتابة، وأن يقول المرء كل شيء، بلا زيادة ولا نقصان، أن يقوله بقليل من الكلام، ويكون الإيجاز بذلك دليلا على الحقيقة تقريبا، وبمقدار ما يكون الشق عميقا يكون الجرح ضيقا، والكلمات هي جرح الصمت، وأن الكلمة في محلها هو ما يتيح للحقيقة أن تنفجر انفجار الدم في عرق أو القيح في دمل، إن من يتكلم ليسلي يصنع جملا، أما من يتكلم تحت سلطة الحاجة فيتكلم بإيجاز وفي هذا يشبه الكاتب الجراح لا بد أن يجري لنفسه عملية حقيقته الحميمة فإذا بقيت داخله أصبحت قاتلة كالخراج).