سعدت الأسبوع الماضي بحضور افتتاح (ملتقى التراث العمراني الوطني الأول) الذي صاحبته تغطياتٌ إعلامية لائقة بالجهود التي بذلها رئيس الهيئة العامة للسياحة والآثار واللجان المصاحبة، وتابعت أغلب فعالياته عبر البث المباشر، وتأكيداً على ما تذكره الهيئة فإن الجميع يلحظ جمال بلادنا عمرانياً من خلال تنوع القرى والمدن التاريخية والمباني التقليدية التي تملك مقومات عمرانية كبيرة ذات قيمة عالية، مما يحتم على الذواقين للجمال القيام بالمحافظة عليها لهم ولمن بعدهم. ومن أجل هذا السبب الوجيه قامت الهيئة بمشابهة من حولنا في المحافظة على كنوزنا الثقافية والتراثية ـ وهي كثيرة ـ ، وأنشأت (مركز التراث العمراني الوطني) للمحافظة على التراث العمراني وتطويره، ولتوفير مصدر رزق لمن يسكنه ويعيش فيه. المركز يؤكد على المهتمين أن قضيته ترتكز على الفهم العميق لظاهرة "العمران"، وأنه يسعى إلى إيجاد "ثقافة التراث العمراني" لصناعة "الوعي المجتمعي" بقيمة التراث، وأن همه هو "كيف نعيش التاريخ"، وأن فرص تنمية وتطوير المواقع استثمارياً متاحة ومرغوب فيها، وأن الخلل في أصالة المواقع وقيمها مضمونٌ عدم حدوثه.

مركز التراث لديه رؤيته الواضحة، ومهمته المحددة، ومجالاته المتعددة، ولتحقيقها تم عقد الملتقى، لتقييم الوضع الراهن معمارياً، ولفت النظر لذلك اقتصادياً، والمساهمة مع المعنيين في حل التحديات المتصورة عملياً.. من أهم هذه التحديات المنتظر حلها ـ في نظري ـ موضوع (الحكر)؛ الذي ضبط تعريفه الشيخان المراغي وعبدالوهاب خلاف وغيرهما بأنه: «عقد إجارة يقصد به استبقاء الأرض مقررة للبناء والغرس، أو لأحدهما ما دام يدفع أجر المثل». شخصياً أميل إلى أن بدعة عقد الحكر تمت ـ كما ذكر معالي الدكتور عبدالعزيز الخياط ـ في آخر أيام الدولة العثمانية، بسبب إهمال الأوقاف؛ يعني منذ ما لا يقل عن ثلاثة قرون تقريباً ـ مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد الثالث عشر ـ . ولا شك أن هذه البدعة حققت بعض الآثار الإيجابية كتعمير الأراضي الموقوفة وغيرها، والانتفاع بها وحفظها وتنشيط الحياة الاقتصادية وغير ذلك. وظهرت لها آثار سلبية؛ حرصت الدول وعلماؤها وقانونيوها على معالجتها، وممن ساهم في ذلك قديماً الشيخان محمد بن إبراهيم آل الشيخ؛ مفتي المملكة ورئيس القضاة، ومن بعده الشيخ عبدالله ابن حميد، رئيس مجلس القضاء الأعلى، عند معالجتهما موضوع تعويض المالك والمستحكر في حال نزع ملكية الأرض المستحكرة.

الحكورات في المملكة كثيرة ومتعددة، فمكة المكرمة وحدها على سبيل المثال فيها حكورات عين زبيدة، وحكورات الإدارة العامة للأوقاف والمساجد، وحكورات وزارة المالية، وحكورات أمانة العاصمة المقدسة، وحكورات الأوقاف الخاصة، وفي المدينة المنورة والطائف وجدة والأحساء والجبيل توجد حكورات متعددة، ومن المسائل الهامة المتعلقة بها زيادة أجرها، فكم من أرض وقفٍ احتكرت في وقت كانت قيمتها بسيطة، وحالياً ارتفعت أجرتها، وبقاء القديم على قدمه فيه ظلم على أصحاب الأراضي المحتكرة، ولا بد من تغيير الأجر لمصلحة الطرفين، بزيادة الأجور؛ وإن أراد المستحكِر البقاء فعليه دفع أجر المثل، إذ إن من الضرر الواضح أن يساوي الحكر السنوي منذ زمن طويل بضعة ريالات، وقيمته اليوم عشرات الملايين، ولا بد أيضاً من السعي في التشجيع على تحرير الحكورات، وأقصد بذلك بيع أحد الطرفين حقه من الآخر؛ وتحقيق غبطة الوقف، ومصلحة مستحقيه إن كان العقار وقفاً، وإيجاد عقود بديلة أجدى وأنفع مما مضى.. مرة أخرى أهنئ سمو رئيس الهيئة العامة للسياحة والآثار على نجاح الملتقى، وأتطلع وغيري إلى المزيد من التألق المنتظر.