مباركة تلك الأرض، حين تفتح مغاليقها، وتوقظ أعراس الفصول في أوردتها، وتهبنا الفرح المبثوث في مخاض طينها، الأرض تنتشي بغناء الفلاح وهو يأتزر بالعبق الكامن في أحداق العشب، ويخبىء تحت وريقات القلب أعواد القصب المترع بالأشواق وحنطة صيف مغتبط كعذوبة فجر، هكذا أتخيل العلاقة بين الأرض وياكوبا حين أبصر تجاعيد الشيخوخة تزحف على وجه الأرض التي أحبها، وسمع أنين الأوراق اليابسة تحت قدميه وهي تحتضر كالضغينة، وتتصاعد أنفاسها كالغبار، وتنوح كصرخة طعين.

لم يستسلم ياكوبا صوادوغو ذلك المزارع البسيط، القادم من قرية أفريقية منسية، جاء ليتحدث أمام ستة آلاف مشارك في المؤتمر العاشر للأمم المتحدة لمكافحة التصحر عن تجربته الفريدة، إنها قصة نجاح مرير قادها الرجل الذي أوقف الصحراء، هذا ما روته جريدة "الحياة"، يقول ياكوبا: "أسلوب الزراعة التقليدي المستخدم في قريتي يسمح لمياه الأمطار بأن تضيع بسهولة، تاركة المحاصيل تجف في غضون فترة قصيرة من الزمن، لهذا السبب فكرت في تقنية من شأنها مواجهة هذه المشكلة".. فحرث الأرض في قريته يتم بطريقة تعتمد على قلب التراب، وشق ممرات فيه، وحفر حقول صغيرة لآبار صغيرة متقاربة جداً بعمق20 سم وعرض30 سم ثم يملؤونها بالسماد. لكن ياكوبا نفذ الطريقة في توقيت مغاير، مع توسيع الثقوب وزيادة العمق، وأضاف بعض الأفكار المبتكرة، إذ جعل فيها سماداً مما تسقط عليه يداه من بقايا نباتية وحيوانية وأوراق جافة ورماد للمواقد، وملأ الحفر بهذه البقايا وأضاف إليها قليلاً من بذور الدخن أو الذرة البيضاء. ولكن الفكرة التي أذهلت العلماء هي توطينه للنمل الأبيض في الحفر، حيث يفكك النمل التراب المتصلب ليبني ممالكه، فيخفف من تكلس التربة ويسمح بتسرب مياه المطر رغم شحها، مما يؤمن انتعاش البذور، وتهيئتها لنمو سليم. إنها طريقة طبيعية لتأهيل التربة وإحيائها من دون تكلفة.

يقول ياكوبا: "إذا لم نعتن بالأرض فسنتركها ونذهب للمجهول" لقد أدرك أن الأمن الغذائي هو أساس الاستقرار والحضارة البشرية، إن أرض ياكوبا أصبحت غابة خضراء كثيفة متنوعة النباتات، ترفل في عمق الصحراء بمساحة 15 هكتاراً.

إن هذا الرجل الستيني يجول العالم، ويلتقي كبار الساسة والخبراء، ويأتي إلى ضيعته وغابته علماء الطبيعة وخبراء البيئة ليدرسوا تجربته. ولذا كم أشعر بطعم الحسرة والألم الممض والفاجع، وأنا أرى هذه القطيعة بين أبناء الفلاحين في بلادنا وأنا منهم وبين أرضهم، بفعل الهجرة المعاكسة، أو تحويلها من أراض زراعية إلى سكنية سعياً للاستثمار وتحسين الدخول والمكتسبات المادية، أو الشعور بأنها عبء ثقيل يجب الخلاص منه، ودليل تفريطنا فيها أن جامعة ضخمة كجامعة الملك خالد لا يوجد بها كلية للزراعة في منطقة زراعية كعسير.