مفردة الجهل ليست بجديدة على العقل البشري، فالأصل في الإنسان هو الجهل أما التعلّم فيعتبر مكتسباً بالنسبة له إما بحسب التجربة التي يخوضها الإنسان أو بحسب قدرته على التأمل وإدراك الأشياء من حوله.

غير أن مصطلح الجهل يتم تداوله مضافاً إلى مفردة أخرى، للإشارة إلى مفهوم آخر كالمصطلح الذي برز عربياً من خلال بعض المفكرين ومنهم المفكر الفرنسي/الجزائري محمد أركون الذي أطلق مصطلح "الجهل المؤسس"، وهناك اهتمام محلي بهذا الأمر، وأبرز من تبنى فكرة الاهتمام بهذا المصطلح المفكر السعودي الأستاذ إبراهيم البليهي الذي دعا إلى تأسيس ما سماه بـ"علم الجهل". ومثل هذه الأفكار تهدف بطبيعة الحال إلى تقويض الجهل الذي يعتبر أكبر معضلة تواجه البشر حتى اليوم وتعترض طريق الإنسان إلى تحقيق الوجود الفعلي من نشوئه إلى مماته.

وعلى الرغم من أصولية الجهل الذاتي لدى الإنسان، إلا أنه لم يكن جهلاً عفوياً على كل حال، بل إن الأحداث التاريخية والعلوم الإنسانية تشير إلى أنه بقدر ما عانى الإنسان من الجهل وحاول تخطيه واجتيازه إلا أنه أيضاً استخدمه كسلاح تضليلي أمام نسبة كبيرة من "الحقيقة" التي تختفي بفعله، فالأفراد والجماعات والدول قد استخدموا الجهل بشكل مغاير من خلال التأسيس له على المستوى الأيديولوجي العميق، من خلال بث تصورات معينة-ومنها ما يسمى بالشائعات قصيرة المدى- التي قد تتخذ لفترة قصيرة أو طويلة على أساس أنها حقائق مطلقة لا يرقى إليها الشك، فنشوء الأيديولوجيات-دينية وسياسية- تهدف إلى هدم التصور الجمعي وخلق تصور جمعي جديد لدى المجتمع من خلال مقولات معلبة جاهزة يتم التعامل معها فردياً وجماعياً على أنها الحقيقة كاملة/مطلقة؛ وبالتالي يتحقق الهدف البعيد!

وحين تتم ممارسة الجهل بطريقة منهجية يصبح هناك فعل حقيقي يسمى "التجهيل"، سواء فيما يتعلق بالفرد أو المجتمع، وهذا يعني أن تطبيق هذا المصطلح عملياً يتم بناء على التأسيس لمنهج علمي يقوم على الجهل! وهذه مفارقة غريبة ابتدعها عقل الإنسان من أجل إحكام السيطرة، تتم على الإنسان والحيوان بالمنهج ذاته من خلال التدجين؛ وهنا تنبه الإنسان القديم (المصلحون والأنبياء والفلاسفة والمفكرون) إلى خطورة الجهل والتجهيل فحاربوه نظرياً، وحاولوا مقاومته على المستوى التطبيقي من خلال نشر الوعي المضاد للجهل مباشرة بين أفراد المجتمعات، وكان هذا مبرراً لمقاومة أفكارهم -الهدّامة للجهل- وإلغائهم وإقصائهم بشكل عنيف.

وعلى مرّ التاريخ، تأثرت التربية بجانبي الجهل والتجهيل حصرياً، لأن زرع الجهل في إنسان ما يعني غرس إنسان جاهل متخلف لا يقوده عقله بل تقوده عقول الآخرين، ولما للتربية من تأثير في الثقافة فإن الإعلام ووسائله المتعددة انضم إلى كوكبة الأسلحة التي تحارب كافة طرق تقويض الجهل.

ومع شديد الأسف أن منهجية الجهل التي عرفت عبر التاريخ البشري تكاد تجمعها وحدة الهدف واختلاف المصدر، حيث كانت هذه العملية تهدف إلى مسألة واحدة: هي الإمساك بزمام الفرد والمجتمع، من خلال جمع جميع الخيوط في يد واحدة غالباً ما يمثلها المنتفعون من بقاء الجهل، سواء كانوا أفراداً أو جماعات أو مؤسسات، ولذلك يتم العمل على دعمه وتفعيله في المجتمع كركن أساسي وخاصة ما إذا كان التجهيل هو العامل الوحيد للبقاء والاستمرارية في حالة أو مكانة أو سلطة معينة عبر تحريك الدمية بالاتجاه المرغوب به دون اعتراض أو مقاومة أو إبداء رأي.

كانت أوروبا-في عصورها المظلمة- أنموذجاً يستدل به غالباً في كيفية التأسيس للجهل ومحاربة الوعي به كخطر فردي واجتماعي، فالكنائس والأديرة ودور التعليم والتربية وقاعات السياسة، كلها مورست فيها أشكال التجهيل والتضليل على الفرد والمجتمع، غير أن طبيعة الكون والحياة تشي بعدم الاستمرار على حال واحدة، فلا بدّ من التغير وتبدل الأحوال، وهذا ما ينعكس على العقل البشري الذي لم يبق ساكناً بل تبدل وتغيرت رؤاه وتصوراته عبر أجيال أخرى لم يكن بوسعها قبول التصورات السابقة كحقائق؛ مما أنتج رؤى جديدة قامت على الفلسفة التي تعتبر أداة مناسبة جداً لتدريب العقل على التخلص من عقده وشوائبه، وذلك بطرح التساؤلات الكبرى، ومحاولة البحث عن إجابات لها ولو على سبيل الافتراض بدايةً.

إن الجهل الذي تعيشه اليوم بعض المجتمعات يجعلها تعيش وضعاً مشابهاً لما عاشته الأمم السابقة في معاركها وصراعاتها المريرة مع الجهل الذاتي من جهة والجهل المؤسس (التجهيل) من جهة أخرى. وإذا كانت أوروبا قد انتصرت على الجهل منذ ثلاثة قرون وصارت تعيش في مرحلة (ما بعد) تلك العصور المظلمة، فإن مواجهة الجهل لم تتوقف وإن توقف التجهيل على مستويات كبيرة وأصبح منحسراً في مساحات ضيقة، فإن أولى الخطوات لمواجهة الجهل على المستويين النظري والتطبيقي هي تفكيك هذا الجهل وزرع قناعات جديدة تقوم على حرية التفكير والتعبير عن الذات الفردية والجمعية، وهذه المهمة ليست محصورة في المفكرين وأصحاب النظريات، فهؤلاء قلة وربما لا يمكنهم استيعاب الاتساع المطرد في الثقافة الإنسانية، لذلك من المهم أن يكون نشر الوعي العام لدى النخبة-مقابلا للجهل والتجهيل- وربما يكون هنا دور المفكرين هو خلق الوعي كقضية نضالية لدى النخب المثقفة من محترفي الفن والأدب وغيرهم؛ فالوعي هو أعلى مراحل التصور المنطقي، وعبره يتم خلق أفراد أسوياء وثقافة خالية من التشوهات وغير معتمدة على الجهل المؤسس كركن ما زال يعتبر أساسياً بها.. وهنا تكون الخطوة التطبيقية لنشر الوعي: التأسيس للوعي أو لنقل دعم الوعي المؤسس؛ ليكون نشر الوعي وتقويض الجهل على المستوى التطبيقي من صميم دور المشتغلين بالثقافة بوجه عام، ويضطلع بهذا الدور الواعون بالقضية من فنانين ورسامين وشعراء وروائيين وصحفيين وغيرهم.