إذا كان الهدف من مهنة المحاسبة هو إيصال معلومات ذات مصداقية إلى المستفيدين لاتخاذ قرارات اقتصادية رشيدة، فإن هذا الهدف قد تغيّر اليوم عند البعض لتكون المهنة أداة من أدوات التلاعب وسرقة أموال الناس.

وهذا ما أشار إليه (الأستاذ/ توماس ستيوارت) في كتابه ثروة المعرفة حيث قال ما نصه: "لقد قضت المحاسبة التي نحبها منذ زمن طويل، ولم تدفن بعد.. فخلال الأعوام العديدة الماضية، ثبت وجود أوجه قصور في محاسبة العصر الصناعي مراراً وتكراراً.. المستثمرون يتعرضون للتضليل بانتظام.. والعالمون ببواطن الأمور (أي المديرون) استفادوا من معلومات لا يستطيع المستثمر العادي الوصول إليها".

والمحاسبة في الحقيقة لم تمت، ولكن المشكلة تكمن في استغلال المهنة في أهداف غير مشروعة، ناهيك عن عدم الاهتمام بها وبمخرجاتها، بالإضافة إلى عدم وجود الوعي الكافي بأهميتها سواء من قبل المستثمرين أو أصحاب الشركات.

كما أن المحاسبة أيضاً تعتبر من العلوم الاجتماعية، وبالتالي فإنها تستند على فرضيات ومبادئ في عملية القياس المالي والتي تعتبر لب العملية المحاسبية، والمتتبع للأبحاث والدراسات النظرية والميدانية في هذا المجال، يجد أنه لا توجد حتى الآن نظرية محاسبية مقبولة، بل هناك عدة نظريات متباينة ومختلفة عن الأخرى.

ومشكلة القياس في المحاسبة ساعدت البعض في عملية تضليل المستثمرين والتلاعب في القوائم المالية والميزانيات، فالقياس في المحاسبة يختلف على سبيل المثال عن القياس في علم الهندسة، ففي الهندسة يتم الاعتماد على نتائج صحيحة في القياسات متفق عليها تماماً، فوحدات القياس فيها ثابتة مثل (المتر، والسنتيمتر) وبالتالي نستطيع قياس ارتفاع ومساحة مبنى أو أرض، ولكن في المحاسبة فإن الأمر يختلف تماماً، حيث إن وحدات القياس مختلفة والتي تتمثل في النقود (الريال، الدولار، الجنيه)، فعند قياس عملية شراء أرض مثلاً، فهل يتم تسجيلها بتكلفتها عند الشراء أو بسعر السوق؟، وهل تم شراؤها بالعملة المحلية أو بعملة أجنبية؟، وهل تم الشراء نقداً أو بأجل؟، وهل تستخدم هذه الأرض لبناء مصنع عليها أو لإعادة بيعها؟ وهل المبلغ المدفوع لشراء الأرض يتم التعامل معه على أنه أصل ويتم تسجيله في قائمة المركز المالي، أم يتم التعامل معه على أنه مصروف ويتم خصمه من الأرباح في قائمة الدخل؟، وهل تم شراء الأرض من العمليات التشغيلية للشركة أم عن طريق قروض تمويلية؟.

المثال السابق يوضح لنا بشكل مبسط مشكلة القياس المحاسبي في عملية بسيطة تتمثل في شراء أرض، فما بالك في العمليات الأخرى الأكثر تعقيداً مثل شراء الأسهم والسندات، وتعاملات المدينين والدائنين مع الشركة، والمبيعات وتكاليف الإنتاج.

إذا فهمنا مشكلة القياس المحاسبي، سهل علينا فهم أهمية مهنة المحاسبة بشكل عام وسهل علينا أيضاً فهم المغزى والهدف من المعايير المحاسبية وأهمية تطبيقها، وفهمنا أيضاً مدى أهمية مسؤولية المراجع القانوني في مراجعة حسابات الشركات وإضفاء المصداقية عليها، وبعد هذا كلّه نستطيع التقليل من مخاطر التلاعب في الميزانيات والتقارير المالية.

وفيما يلي استعرض قضية أو بالأحرى فضيحة اقتصادية أشغلت الرأي العام الأمريكي، بل والعالم أيضاً، وهي قضية الشركة العملاقة والمعروفة (إنرون)، وذلك لتوضيح أهمية القياس المحاسبي والإفصاح في التأثير على الأسواق المالية وإنه كيف يمكن استغلال معايير المحاسبة من قبل المتلاعبين لتحقيق مصالحهم، وبمباركة شركات المراجعة، والمحللين الماليين.

فقد حققت الشركة أرباحا طائلة وهائلة في فترة من الفترات، حيث أظهرت القوائم المالية للشركة لعام 2000 صافي دخل تجاوز بليون دولار، نصفه يمثل مكاسب غير محققة، وأسلوب قياس الإيرادات يتمثل في الاعتماد على ما يعرف بمؤشر السوق، ومع ذلك لم يتم الالتفات إلى هذه المكاسب غير المحققة (وهمية) كما لم يتم الالتفات إلى كيفية تحديد القيم العادلة للأدوات المالية، والتي ترك تحديدها إلى مديري ومحاسبي ومراجعي الشركة..هذا من جانب.

ومن جانب آخر قامت الشركة بالاقتراض المباشر من البنوك، وذلك لتمويل عملياتها المتطورة، وكانت المعالجة المحاسبية لهذه القروض عن طريق ما يسمى بسياسة الدفن، بحيث أسسوا مئات الشركات ذات المسؤولية المحدودة ذات الغرض الخاص، والتي يتم من خلالها الاقتراض ومن ثم تمويل عمليات الشركة وبالطبع تم استغلال هذه المعالجة المحاسبية لدفن عمليات الغش والفساد.

القضية السابقة تفتح لنا أبواباً كثيرة للتساؤل، تتمثل في ما مدى احتمالية وجود مثل هذا التلاعب في بعض الشركات لدينا وخاصةً الشركات المساهمة؟، وكيف يمكن التعامل معها قضائياً؟، وخاصةً في ظل جهل الكثير منا بالمعايير والسياسات المحاسبية، وضعف الإفصاح المحاسبي؟، والتحدي يزداد تعقيداً أكثر إذا علمنا في احتمال وجود تواطؤ مع شركات المراجعة القانونية!.

فعلى سبيل المثال نجد في بعض القوائم المالية المنشورة لبعض الشركات في المملكة أنه تم الاقتراض من البنوك بغرض التمويل لشراء أصول ثابتة للشركة، ومن خلال النظر إلى قائمة التدفقات النقدية نجد أنه تم تمويل هذه الأصول من خلال العمليات التشغيلية لها، ولا نعلم أين ذهبت مبالغ القروض؟، كما نجد أيضاً غموضا شديدا حول بعض المعالجات المحاسبية المستخدمة في تحديد المخصصات المالية، ولا نعلم على أي أساس تم تحديدها؟، وهذا ما ينطبق أيضاً على البنود الأخرى، ورغم كل ذلك نجد رأي المراجع في التقرير يؤكد على عدالة القوائم المالية والتي تم إعدادها وفقاً للمبادئ والمعايير المحاسبية، مع أنها تخالف تلك المعايير وتلك المبادئ وخاصةً الإفصاح المحاسبي.

وعلى كل حال فإن قضايا التلاعب يصعب الإحاطة بها، ولكن من المهم جداً إلزام الشركات المساهمة بالإفصاح بشكل دقيق ومفصّل عن سياساتها المحاسبية لمعالجة الأمور المالية المهمة وبشكل يفهمه القارئ العادي، مع ضرورة وجود رقابة وإشراف من قبل الجهات المختصة على غرار مجلس الإشراف على محاسبة الشركات العامة في الولايات المتحدة الأمريكية.