بينما في كل دول العالم تتحرك يوميا المئات من القطارات بمختلف الاتجاهات وتمثل رافدا فعليا وعاملا مؤثرا في النمو بمختلف مستوياته، لا يتحدث السعوديون سوى عن خط واحد وذي تأثير ضئيل في واقعنا التنموي.
إن غياب القطارات والسكك الحديد عن المنظومة التنموية والاقتصادية السعودية. إلى الدرجة التي تحول معها الخط اليتيم في السعودية ما بين الرياض والدمام إلى مجرد اعتذار وتبرير عن ذلك الغياب، صار خللاً في مسيرة التنمية، وفي بنيتها.
ثمة تأثير مرتبط بتاريخ النمو والتاريخ الثقافي والاجتماعي السعودي، ففي مراحل النهضة الأولى التي شهدتها المملكة، كان الهاجس الاجتماعي يرتبط لدى مختلف الشرائح بالسكون وغياب التنقل بين المناطق، فالمجتمعات حديثة العهد بالاستقرار ليست مجتمعات تواقة للانتقال والارتحال من مناطقها إلى مناطق أخرى، وكانت الوفرة المالية لدى المجتمع في بداياته قادرة على توفير وسائل نقل خاصة للأفراد والعائلات، إلا أن ذلك الواقع تغير كثيرا، وأصبح النقل عبر القطارات وسكك الحديد أحد أبرز مقومات النمو الاقتصادي في كل بلدان العالم، مما يؤكد على أن النظرة الاقتصادية التي صرفت النظر عن سكك الحديد كانت تنظر لمرحلتها الحالية ولم تكن تتطلع لما هو أبعد من ذلك، فما وصل إليه الواقع الحالي في المملكة يشير بشكل واضح إلى واحدة من نقاط الخلل في البنية الاقتصادية السعودية تتمثل في هذا الغياب غير المبرر للسكة الحديد.
الآن تتجه المملكة لإعادة الاعتبار لهذا الرافد الاقتصادي، ويتم العمل في مشروعات لبناء سكك حديد ومحطات، وتمت ترسية عقود لتصنيع القطارات، حيث أكد معالي وزير النقل بأن شبكة القطارات في المملكة ستنطلق قريبا من الجبيل مرورا بالدمام والرياض وجدة ومكة والمدينة المنورة وأخرى تبدأ من الحدود الأردنية مرورا بالجوف وحائل والقصيم.
هذا التصريح يشير في الواقع إلى آلاف الكيلومترات التي ستتم تغطيتها بشبكة واسعة، من الواضح أنها ستغطي جل مناطق المملكة وستمثل نقلة نوعية وحقيقية في الحياة السعودية، خاصة مع ما بات يمثله النقل الداخلي من أزمة على أكثر من صعيد.
إن تجربة قطار الحرمين والذي تم الانتهاء من المرحلة الأولى من مراحل إنشائه، تعكس انطباعا إيجابيا على مستوى الشركات التي تسلمت المشروع وعلى مستوى الالتزام والتقيد الذي يبدو معقولا بالفترة الزمنية المحددة للانتهاء من تلك المرحلة.
إلا أن واقع المشروعات السعودية بات يفرض على المسؤولين من وزراء ووكلاء وزارات أن يكونوا أكثر حذرا ودقة في تصريحاتهم، فليس من المهم أن تقول الوزارة إن خط السكة الحديد سيربط بين نجران وعرعر مثلا، لكن المهم أن يشتمل ذلك التصريح على معلومات لها علاقة بالوقت ومراقبة الإنجاز والمسار الزمني للعمل.
بالتأكيد أن وزارة النقل تدرك جيدا أن التجربة الحالية القائمة في سكة الحديد التي تربط بين الرياض والدمام ليست تجربة مشجعة على الأغلب، وبالتالي فليس من الأنسب أن تتعامل معها الوزارة على أنها النموذج الذي ستقدم من خلاله مشروعاتها القادمة، فهذا الخط اليتيم أمضى سنوات، شهد الذين يستخدمونه على رداءة الخدمة والبطء وتراجع مستوى الخدمات، والمزعج أن كل تلك السلبيات ظلت قائمة لسنوات طويلة دون تغيير، ورغم أنه خط واحد إلا أن الأخبار الصحفية عن حوادثه وأعطاله تجعلك تشعر وكأنك أمام شبكة من سكك الحديد التي تغطي مختلف مناطق المملكة.
القطارات الحديثة التي ستطلقها وزارة النقل وتستبدل بها القطارات القديمة في خط الحديد بين الرياض والدمام كانت خطوة مهمة قبل البدء بأي حديث عن المشروعات القادمة، لأننا سنكون كمن يسكن في بيت من الطين، ويستعرض مخططا لبناء ناطحة سحاب. وستكون الفترات الأولى من تشغيل هذه القطارات الحديثة أبرز شاهد على مستقبل التوسعات القادمة في شبكات السكة الحديد المزمع إنشاؤها.
لم يكن من المبشر أن نستقبل تصريح وزارة النقل بأن تذاكر ركاب القطارات لا تغطي سوى خمسين بالمائة من قيمة التشغيل، أولا لأن ذكرياتنا نحن السعوديين مع هذه التصريحات مؤلمة للغاية، فهذه إحدى العبارات التي غالبا ما تتكرر على ألسنة المسؤولين في الخطوط السعودية، وطالما كان الجواب من الناس أن "ارفعوا أسعار التذاكر إن شئتم، إنما وفروا لنا الخدمة التي نستحقها" وهو ذات الجواب الذي سيرد به الناس على هذا التصريح إذا ما تبنته القطارات والسكك الحديد.
من الإيجابي أن تفكر وزارة النقل وتدرس خصخصة السكك الحديدية، لكن من غير الإيجابي أن يظل ذلك الخبر مجرد دراسة وتفكير، خاصة أن مثل هذه الخدمات لا يمكن أن تقدم أفضل ما لديها إلا إذا اتجهت لنظام الخصخصة، ومع تزايد حركة النمو في المملكة يصبح من المستحيل اكتمال ذلك النمو بدون شبكة متميزة لخدمات القطارات وسكك الحديد والتي لا توفر فقط وسيلة نقل ولكنها أيضا توفر جوانب اقتصادية واستثمارية ووظيفية متنوعة.