مقالي السابق فهم فهماً مخالفا للمقصود، حيث تصور الكثيرون أني أدعو لزواج الصغيرات بينما أردت القول إن موقف المؤيدين له موقف شرعي بحت ولا يوجد فيه سوء فهم لتطبيقات الشريعة. وعلى الراغبين بمنع زواج الصغيرات مواجهة الفكر وليس تخطيه للمطالبة بسن القوانين. فالنخب المثقفة وأغلب فئات المجتمع التي حصلت على بعض المعرفة لم تعد تمارسه لكن هذا لا ينفي كون الظاهرة لها إطار شرعي قوي عند الفئة التي ما زالت تمارسه وكذلك لا ينفي الخوف من أن يأتي من يطالب بإحياء هذه الظاهرة.
بالنسبة لي فأنا لا اتفق مع زواج الصغيرات حتى وإن كان يستقي قوته من عمق التطبيق عبر التاريخ. كل ما في الأمر أن قضيتي الأولى هي نقد الثقافة والأفكار التي تحويها وتفكيكها وتحليلها. وهذا الأمر هو ما أركز عليه تقريبا في أحاديثي وفي أغلب مقالاتي وفي كتابي الوحيد "مذكرات موظفة سعودية".
الفرد قد ينجبه والداه لمجرد فكرة كالعزوة وحفظ التركة وغيره. والمجتمعات العربية تتكاثر بصورة هائلة لمفهوم ثقافي يحثهم على التكاثر ولأنهم يعتقدون يقينا أيضا أن الرزق على الخالق وأن الإنسان يخلق ويخلق معه رزقه سواء قليلا أو كثير بغض النظر عن أن هناك شعوبا بأكملها تموت من المجاعات وقلة الموارد. وكذلك يموت الإنسان وينهي حياته من أجل مفهوم كمن يستشهد ليحصل على الحور العين وكالكاميكاز يفجرون أنفسهم من أجل مفهوم الوطن بالرغم من يقينهم بالفناء والعدم. وبناء على مفاهيمنا تكون علاقاتنا، فهناك رجل قد ينهي حياة أقرب النساء إليه كأخته من أجل مفهوم اجتماعي يسمى بالشرف.
يعيش الإنسان ويموت ويبني ويحارب ويحب ويتزوج ويتحمل كل أنواع البؤس ويعتقل الآخرين ويعذب إخوانه في الإنسانية من أجل مفاهيم وقيم مزروعة في ذهنه. لذا لا يمكن تغيير أمة بسن قوانين تجرم الظواهر الضارة دون إبطال مفعول الأسس الفكرية المولد لهذه الظواهر، فالبدء بفرض القوانين هو كتغطية الجروح وتجاهل مصدره. فتصرف كهذا غالبا ما يكون مصيره الفشل عاجلا أم آجلا لأن الناس تحافظ على قناعتها داخل عقولها كنوع من المقاومة وتتحين الفرصة لإطلاقها وبصورة أكثر تطرفا من قبل.
والأمثلة عديدة وآخرها هو ما حدث في ليبيا فهناك بعض القوانين التي فرضت على المجتمع الليبي قسرا لعشرات السنين، مثل منع تعداد الزوجات وهي فترة كاملة لخلق جيل يعتاد على هذا القانون لكن لأنه فرض عنوة وليس بالحجة والتفنيد فقد أبطل بلمح البصر وقوبل بالترحاب حتى قبل أن يتم التخلص من الحكم السياسي ذاته.
برأيي، الأمم لا تتغير بالقسر بل تتغير عندما تتحلى بالشجاعة الأدبية في النظر لإرثها الثقافي بعين العقل ومواجهته وسن قوانينها بناء على قناعات جديدة. أما أن نعشش في مرحلة الإنكار ونمجد مصادرنا وتاريخنا ونبرزه بصورة متعالية كاملة ثم عندما يطالبنا هذا الإرث بتطبيقه على أرض الواقع نرفضه ونتملص منه فهذه هي قمة الازدواجية والشتات الفكري.