ثمة نهايات بائسة لقادة ارتسمت صورهم الذهنية أثناء حياتهم بكثير من البطولة، غيرأن الصورالأخيرة لهم لنهايات مروّعة طمست كل تلك الصورالناصعة، ولربما كان مصيرمعمر القذافي (7يونيو 1942-20اكتوبر2011) إحدى أشهر تلك الصور، وأتذكرأنني وقتما طالعت الفضائيات في ظهيرة الخميس الأشهر؛هتفت من فوري بأن الرجل مات بشرف، وقد قاتل حتى آخر قطرة من دمه، بعد أن رأيت الدماء تغطي وجهه، بيد أن ذلك الانطباع الأوّلي سرعان ما تبدّد ومقاطع الفيديو التي تتالت في شبكة (اليوتيوب) تصوّر لحظاته الأخيرة، وحسناً فعل ذلك الشاب الذي قام بإطلاق رصاصة الرحمة عليه، بعد أن مزقت صورته وهو مضرج بالدماء القلوب، وظهر بذلك المنظر المذلّ، وهو يتوسّل آسريه الشباب: "حرام عليكم.. حرام عليكم"، فيما أولئك المقهورون يبصقون عليه، ويصفعونه، وهو يتوسّلهم الرحمة؛ لتطيش صورة البطل الذي بقي مقاتلاً لآخر قطرة دم، وتحلّ محلها صورة رجل منهزم، وقد سلّم نفسه نشداناً للسلامة، وكل تلك الكاريزما التي كان يظهر بها على باب العزيزية، والكبرياء والشموخ اللذين كان عليهما أثناء خطبه المدويّة؛ أتت هذه الصورالأخيرة له، لتطمسها، وينتهي في ذاكرة التأريخ بتلك الخاتمة المهينة.
تذكرت من فوري الزعيم العراقي الشهير صدام حسين التكريتي (28 أبريل 1937-30 ديسمبر 2006)، الذي سبق القذافي في زعزعة الصور الذهنية المتجذرة في الوجدان العربي، فنحن لا ننسى أبدا منظره الذليل، وقتما أخرجته القوات الأميركية كفأر منجحر من تلك الحفرة، والتراب يعلو هامته التي طالما كانت شامخة، وفجعتنا هيئته بتلك اللحية التي غيّرت من ملامحه التي عرفناه بدونها، وانقلبت صورة الشخصية المهيبة والمرعبة لصدام إلى صورة شاحبة صفراء لرجل مصفّد بالسلاسل، يتجادل في المحكمة -التي سيق إليها مراراً- مع المحامين الذين تسابقوا لإذلاله، وانتهى الرجل في وجداننا بتلك الهيئة التي طمست كل تاريخه، غير أن مقطعاً واحداً في (اليوتيوب) لمدة 30 ثانية أعادت له كل الشعبية والكاريزما؛ وقتما سخر من جلاديه وهو في موقف الموت، ورفض حتى أن يغطي عينيه وقت إعدامه، وصاح صيحته الشهيرة ساخراً من الطغمة المتجمعة حوله: "هل هذا كل الذي استطعتم أن تفعلوه؟!"، لتمّحي كل الصورالسلبية عنه بصورة غاية في البطولة، وختم الرجل حياته بموقف جليل، وراجت شعبيته بشكل يفوق الوصف، وانتهى بطلاً حقيقياً في ذاكرة الأجيال والتاريخ..
الرئيس المصري محمد حسني مبارك (4 مايو 1928- .....) الذي أجبر على التنحي في 11 فبراير 2011م، صورته التي حُمل بها على السرير، وهو داخل قفص المحاكمة، بالتأكيد لن ينساها أي مصري، وهو الذي كان إلى قبل أشهر بسيطة، يصيح ويستهتر بـ"شوية العيال" في ميدان التحرير، أو تتذكرون صورته وهو يلقى الخطابات المفوّهة!!، ووقفته الشامخة بكل الكبرياء الذي تتلبّس هؤلاء الزعماء، ليتفاجأ العالم أجمع بصورته داخل المحكمة المصرية، ممدّداً على السريرالطبي، ذاهلاً عما حوله، بعينين تائهتين تحكيان قصة بعمر ثلاثة عقود بائسة، وحتماً لو استقبل الرجل من أمره ما استدبر، لما استمع إلى زوجته وابنه وأركان حكومته الفاسدة، وتنازل عن الحكم، وبقي كبيراً في وجدان المصريين، ولكنها الخاتمة السوداء التي كتبها القدر له.
أسامة بن لادن (10 مارس 1957- 2 مايو 2011)، -بالتأكيد بعيداً عن أفكاره المتطرفة وما أساء به للإسلام والمسلمين- إلا أنه مات ببطولة، مقارنة مع معمر القذافي.
ربما كان أبرز من قام بتفويت الفرصة على الخصوم بالتشفي والانتقام والزعيم النازي أدولوف هتلر (20أبريل 1889-30 أبريل 1945)، إذ في ظني أن الشيوعيين الروس واليهود والبريطانيين والفرنسيين بل وكل أوروبا ما يزالون يغصون إلى اليوم بعدم استطاعتهم النيل منه، وتقديمه للمحاكمة، وتعددت الروايات إلى اليوم في مصير الرجل.
مصائر ومصارع لطغاة مروا علينا، من تشاوسيسكو الروماني الذي أعدم مع زوجته وبثتها أجهزة التلفزة مباشرة في العام 1989، إلى صورة الأمير عبدالإله الوصيّ على العرش، وهو يُسحل في شوارع بغداد في عام 1958، إلى صورة الزعيم الفاشي موسوليني وهو معلق من رجليه في روما عام 1945، وصور لا تنتهي، تحكي النهايات السوداء لرجال ملأوا الدنيا ضجيجاً وصخباً، وانتهوا بهذه الخاتمة السوء.
وعوداً للقذافي، تألمت حقاً من تلك الصورة الذليلة التي كان عليها، صورة يجب أن تعظ كل أولئك الزعماء الذين جاءوا على الدبابات وبقوا على صدور شعوبهم، يسوطونهم ألوان القهر والذل؛ أنّ مصيركم كمثل مصائر من قبلكم، فاتعظوا.
في مقابل هؤلاء، تأملوا أيها السادة في رجل كزايد آل نهيان، وكيف كان حانياً على شعبه، فبادلوه حبّاً بحبّ.. وقبل زايد، استقرئوا تأريخ ملوكنا، من الملك المؤسّس يرحمه الله، مرورا بفيصل العظيم والملك الصالح خالد وخادم الحرمين الشريفين الملك فهد، وكيف كنا نبكي كشعب عليهم، إذ اعتبرناهم كآباء لنا أكثر من مجرد كونهم ملوكاً، والله أتذكر هنا وأنا طفل، كيف بكت حارتنا الشعبية في الطائف برمتها، صغاراً وكباراً، ورجالاً ونساءً، وكان الجميع ينحب: استشهد الملك فيصل، وأقسم بالله صادقاً أن ذلك ما حصل، وما زلت لليوم أتذكر تلك الصورة الحزينة، وأنا أتفرّس –كطفل- في الوجوه الباكية في الحارة، وهناك الأمير سلطان يرحمه الله، كيف تسابق الناس لاستقبال نعشه في المطار، في صورة عكست حب هذا المجتمع لقادته.
صدقوني -يا سادة- أن مسلمّة كونية انبثتقت من الربيع العربي تقول إن الحكام الذين يلتحمون مع شعوبهم ويحنون عليهم، هم من سيبقون، والباقون إما لقفص المحاكمة أو مصير أسود كالقذافي.