لم يكن إسقاط الأنظمة الدكتاتورية العراقية المتعاقبة يمثل للأكراد هدفاً إستراتيجياً في أي يوم من الأيام منذ قيامهم بالمقاومة المسلحة ضدها بداية اندلاع ثورة سبتمبر القومية عام 1961 بزعامة مصطفى البارزاني، بل إن إستراتيجيتهم الثابتة كانت ومازالت تتمحور حول نقطة واحدة أساسية ظلوا يؤكدون عليها في كل مناسبة، ويصرون على تحقيقها، وهي الديمقراطية.. وكان شعار حركة التحرر الكردية في كل مراحلها هو: "الديمقراطية للعراق والحكم الذاتي للأكراد".
وإذا كانت القوات الكردية قد شاركت بشكل مباشر في إسقاط النظام البعثي عام 2003 جنباً إلى جنب مع القوات الأميركية، فلأن النظام الدكتاتوري كان قد انتهى "إكلينيكيا" ومات، فمنذ أن طرد من الكويت بعد احتلاله الغاشم لها وفرض عليه الحصار القاسي سياسياً واقتصادياً؛ لم تكن تعوزه غير دفعة بسيطة ليسقط، وقد سقط.
ورؤية الأكراد لمفهوم الديمقراطية تختلف بعض الشيء عن رؤية باقي الأحزاب والشرائح السياسية الأخرى العراقية، فهي تمثل لهم الضمانة "القانونية" للوصول إلى أهدافهم القومية، ووسيلة لتحقيق ما عجزت عنها وسائل أخرى مثل الحروب والمواجهات من تحقيقها، في حين لا توجد هذه الرؤية عند الآخرين، وإن وجدت ففي نطاق ضيق، ربما عند بعض القوميين العراقيين، ولكن ليس بالتوسع والشمولية التي لدى الأكراد، هذه الرؤية الخلافية حول مفهوم الديمقراطية، خلقت نوعاً من عدم التناغم والتفاهم والتصادم في بعض الأحيان بينهم وبين الحكومة المركزية التي تمثلها هذه الأحزاب.
إن تأكيد الأكراد على نشر الديمقراطية في العراق على مدى عقود من الزمن كشرط للدخول في العملية السياسية لم يكن يشكل تحدياً صارخاً لنظام الحكم في العراق فحسب؛ بل للمنظومة السياسية التقليدية في المنطقة (وعلى وجه الدقة تركيا وإيران وسورية) التي حافظت دائماً على صلابتها وحديتها تجاه أي مشروع سياسي يمس نظامها التقليدي العام ويغير من مسارها السياسي، ظلت تقاوم وتناهض بقوة كل الطروحات التي تدعو إلى الإصلاح والديمقراطية والمشاركة في الحكم والإدارة الجماعية للبلاد، وما حدث في العراق عام 2003 كان بمثابة الزلزال الذي أصاب المنظومة من الأعماق وعرض وجودها للخطر، وكان إيذاناً ببدء مرحلة جديدة مقبلة على المنطقة.
كان من الصعب إن لم يكن من المستحيل أن يتبنى العراق النهج الديمقراطي على النمط الغربي في ظل بقاء هذه المنظومة "المتخلفة" التي تمثل سياسات الأنظمة الدكتاتورية في المنطقة، فأي مساس باتجاه تغيير البنية السياسية لنظام ما في المنطقة يعد مساساً بالأنظمة الأخرى، وتهديداً مباشراً للمنظومة "عملية الدومينو" وبالتالي سيجابه بمنتهى العنف والقسوة، كما حدث مع العراق عندما أراد أن يغير ويتغير ويخرج عن الطوق، لم تجد هذه الأنظمة أمامها غير أن تتحرك بسرعة لوقف عجلة التغيير في بلد يعد من أهم بلدان المنطقة، عملت كل ما بوسعها للوصول إلى هذا الهدف، ولكن كان العراق قد قرر المضي في طريق التغيير، ولم يكن باستطاعتها أن توقف مسيره، وعندما أراد الشعب السوري أن يحذو حذو العراق ويتحرر من القيود التي كبل فيها منذ أكثر من أربعين عاماً، وجد نفسه في مواجهة أشرس نظام عرفه التاريخ.
ومن أهم الأخطاء التي ارتكبها الأميركيون ومعهم الأكراد أنهما تجاهلا دور هذه الأنظمة القمعية التي تحيط بالعراق (إيران/سورية)، ظن الأكراد أن التأسيس لنظام ديمقراطي في العراق كفيل بمعالجة القضايا الخلافية العالقة مع حكومة في بغداد، ولكنهم وجدوا بعد مرور أكثر من سبع سنوات من الحكومة "الديمقراطية" الجديدة وكتابة الدستور والفدرالية وإنشاء برلمان وإجراء انتخابات أصولية؛ أنهم مخطئون، أخطأوا حين وثقوا بالأميركيين وظنوا أنهم يملكون كل أوراق اللعبة السياسية في العراق، وأنهم يستطيعون من خلالهم تحقيق أهدافهم القومية، متجاهلين الدور الإيراني المتنامي الذي بدأ ينافس الدور الأميركي إن لم يتفوق عليه، وكذلك أخطأوا حينما بالغوا في الاتكال على الشخصيات السياسية العراقية "الصديقة" المتنفذة في السلطة الجديدة في تطبيق بنود الدستور المتعلقة بحقوقهم القومية، وبخاصة المادة 140التي تعالج أهم قضية تاريخية بين العرب والكرد، وهي قضية الأراضي الكردية التي تعرضت للتعريب والتهجير من قبل الحكومات العراقية المتعاقبة.
وكما وقع الأكراد في وهم أنه من الممكن الوصول إلى ما يصبون إليه بمجرد أن يشاركوا في اللعبة الديمقراطية مع لاعبين عراقيين "أصدقاء" ويساهموا في تشكيل الدولة الجديدة على أساس المبادىء والقيم المعاصرة؛ بإشراف ومساهمة قوية من جانب الأميركان، دون الالتفات إلى لاعبين محترفين من دول الجوار لهم وزنهم في المعادلة السياسية الإقليمية؛ ارتكب الأميركيون نفس الغلطة، وظنوا أنه بمجرد تغييرهم لنظام البعث البائد سوف تسقط باقي الأنظمة التقليدية الموجودة في المنطقة واحدة تلو الأخرى.
كلا الطرفين الكردي والأميركي ارتكبا أخطاء إستراتيجية إزاء التطورات السياسية الجارية في المنطقة، وذهبا ضحية أحلامهما الوردية التي تحولت فيما بعد إلى كوابيس.
الأكراد فشلوا فشلاً ذريعاً في تحقيق أي من أهدافهم القومية بالطرق الديمقراطية ومن خلال الدستور الذي عولوا عليه كثيراً، والأميركان أيضاً فشلوا في نشر الديمقراطية عن طريق القوة والهيمنة العسكرية، ولم يستطيعوا إتمام مشروعهم الشرق أوسطي الكبير الذي حلموا به و صرفوا عليه "دم قلبهم"، فاضطروا إلى عقد اتفاقات أمنية مع العراق لسحب قواتهم منه، وترك المنطقة.